بسم الله الرحمن الرحيم
كتب الشيخ الفاضل ماجد بن عبد الرحمن الفريان خطبة مفيدة واعية في قضية الاختلاط حملت عنوان :
المحكم والمتشابه في الاختلاط
وقد كشفت عن ضعف الاستدلال عند من يحكم في الحال ويغفل عن المآل
أترككم مع الخطبة :
إن من رحمة الله بعباده أنه ما حرم عليهم شيئاً إلا وأبدلهم خيراً منه، ولما جعل في الرجل والمرأة ميلاً إلى بعضهم، وخلقهم من نفس واحدة، نظم العلاقة بينهم بما يلبي الرغبة ويحقق المصلحة، ويصون العرض، فرغب في النكاح وحض عليه وأوصد كل طريق يؤدي إلى وقوع المحذور أو مقدماته فحرم الخلوة والدخول على النساء والسفر بلا محرم واختلاط الرجال بالنساء لما في ذلك من الفساد والانحلال؛ ولما يخلفه من ذهاب الأخلاق وقلة الحياء؛ ولأنه سبب في وقوع الفواحش ونشرها
.
وحديث الإعلام في هذه الأيام يتوجه بوجهة واحدة، وطريقة واحدة، فهو يريد تطبيع الاختلاط، وإقناع المجتمع بجوازه، ويتلقفون التصريحات من الطرقات، ويختطفون المقالات من مجاهل المواقع والشبكات؛ ليجيزوا بها الاختلاط، ويقومون بمحاربة كل من يخالفهم في رأيهم، بل ويستعدون عليه ولاة الأمر، مع أن الفتوى من علمائنا قديماً وحديثاً على منعه وتحريمه، والأدلة على تحريم خلط النساء بالرجال تظاهرت بها نصوص الكتاب والسنة، وتبصَّر عقلاء البشر في عواقب الاختلاط ومآلاته السلبية دينياً وأخلاقياً.
وإذا تكلمنا عن قضية الاختلاط فإننا لا نتكلم بطريقة المدافع الذي يلاحق الشبه التي تتوارد على المنافقين والذين في قلوبهم مرض ليجيب عليها؛ لأن هذه الشبه ليست شبهاً عندنا، وليست شبهاً موجودة عند عموم الناس بحمد الله، وإن كان البعض يحاول زرعها في هذه الأيام، ولا نقول في هذه المسائل قولان بل هذه الصور من الاختلاط محرمة وليس فيها إلا قول واحد، وما كل قول جاء معتبراً إلا قول له حظ من النظر، وثمة فريق لا يقع منكر من المنكرات إلا وأقحموا فيه قضية الخلاف الفقهي، حتى ولو أنزلوه في غير موضعه، ونحن نتكلم هنا عن صورة من صور الاختلاط غير المشروع .. فهو ليس "اختلاطاً عارضاً"، بل هو اختلاط مكث ورفع كلفة، ومع ذلك يتحدثون عن قضية الخلاف الفقهي في صورٍ أخرى لا صلة لها بما يجري!، وهؤلاء لو تم افتتاح "حانة للخمور" لقالوا يجب أن نميز بين خمر العنب فيها فننكره، وخمر غير العنب فيها فنراعي فيه قضية الخلاف الفقهي! ونقول لهؤلاء (لولا تتقون الله لعلكم ترحمون) شباب وفتيات، وجنسيات وديانات، والضوابط الشريعة لا يعترفون بها، والمقاعد مختلطة، وصالاتٌ رياضيةٌ ومسابحُ مختلطة، ومطاعم ومقاهي مختلطة، وسكن مختلط، فيا أصحاب مدرسة القولين، هل هذا من المختلف فيه؟ ونحن نرى اليوم فتياتنا يقعن فريسة الهاتف والماسنجر والإيميل، بل يعتدى عليهن ويتحرش بهن في الأسواق الخاضعة لرقابة الهيئة؛ ثم تتعاملون الآن بهذه المثالية مع اختلاط كامل بين الجنسين، وفي أماكن معزولة عن الضبط وعين الرقيب.
بل إن الفتيات يقعن ضحية مزاملة في منتدى الكتروني، يقود إلى رفع الكلفة وكسر الحاجز حتى ينتهي بلقاء غير مشروع، وأمور لا تحمد عقباها، ثم نقول عن الاختلاط الدائم المقنن بأنه محل خلاف بين العلماء، أو أنه دخيل على قاموسنا الفقهي، فهل يعي هؤلاء نقطة الخلاف، ومحل النزاع، إن الفتنة تقع لأبنائنا وبناتنا مع الفصل وتقنين الحشمة والحياء، بسبب العولمة وفضاء الحرية والفساد الذي فتح على العباد، فكيف تكون حال الشباب والشابات وهم يعيشون مع بعضهم ثلث يومهم أو يسكنون سوياً في إسكان خاص، مع كمال الخلوة والفتوة والبعد عن الأعين فهنا لا يمسك القلوب عن الغواية إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم.
فيا أصحاب مدرسة القولين، ألا تتحرك فيكم الغيرة على الأعراض التي صانها الله ورسوله؟! وتضعون الأمور في نصابها، وتنزِّلون المسائل على صورها، ولا تكونوا مطية يمتطيها عباد الشهوات، ومتبعوا الشبهات، ويا خسارة من يعبر الناس إلى الجنة على ظهره عياذا بالله وهو يكردس في النار.
معاشر المسلمين :
إن الأمر المهم في هذه القضية هو "الإشكال المنهجي" الموجود عند هؤلاء القوم الذين يدافعون عن فكر"الاختلاط والانحلال" قبل أن يكون الإشكال عندهم في الجزئيات، فبمجرد أن يستوعب الإنسان القاعدة القرآنية في المحكم والمتشابه، وأن الشريعة متضمنة لهما، وأن من منهج المؤمنين اتباع المحكمات والحكم بها على المتشابهات، وأن من منهج الذين في قلوبهم مرض وزيغ اتباع المتشابهات وتوضيفها في تعطيل المحكمات.
وما إن يتدبر الباحث عن الحق هذه القضية إلا وتنحل عنده كثير من القضايا التي يطول الجدل فيها بين أهل الحق وبين الذين في قلوبهم مرض وزيغ، وقد وردت هذه القاعدة العظيمة في قول الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وابتغاء تأويله) فمن تأمل هذه الآية العظيمة وعرف مقاصدها وجعلها حاضرة في ذهنه عند القراءة في مسائل الفكر المعاصر التي طال فيها المراء والجدل إلا وتتطاير أمامه هذه الشبهات هباء منثوراً، لأنه يأوي إلى ركن شديد، ومحكم ثابت، فكيف ينقضه بتأويل أو احتمال، ومن غفل عن هذه القاعدة القرآنية فإنه سيكون في حيرة واضطراب، وتشتت وتحول، فتراه يقفز بين الأقوال والآراء، ويقول اليوم قولاً وينقضه غداً، ويزل الزلة تلو الزلة بسبب إغفاله لهذه القاعدة القرآنية العظيمة.
وأكثر مسائل العلم فيها محكم واحد تصرح به النصوص، وتدعمه، وفيها متشابهات كثيرة فإذا غفل الإنسان عن هذه القاعدة لم يستطع تمييز الحكم الشرعي والمراد الإلهي الذي يجب على العباد الأخذ به، حتى ولو كان من الصالحين المتقين، لأنه ضرب الشريعة ببعضها، ولم يميز محكمها ومتشابهها، ولم يتوصل إلى تمييز المحكم فيتبعه، ولا المتشابه فيعرض عنه، ولكن الذين في قلوبهم مرض يطعنون في الشريعة ويسعون في هدمها من خلال المتشابهات وكل من يقرأ لهؤلاء الذين يتبعون الشهوات فإنه سيكتشف بكل هدوء أن كتاباتهم مبنية على التعامي عن المحكم وتتبع المتشابه، وتكوين أصل كامل من المتشابهات، وتحويل الاستثناءات إلى أصول تهدم المحكمات.
و في موضوع المرأة – إخوة الإسلام-: من رأى المحكمات الواضحة في تأسيس مقصود الشارع في "التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين" علم أن ما يثار حولها من اعتراضات واحتمالات إنما هو من قبيل المتشابه الذي لا يلتفت له أهل الإيمان واليقين وإنما ينساق خلفه أصحاب القلوب المريضة، ويتعلق به أصحاب القلوب الزائغة.
ومن تلك المحكمات في قضية المرأة على سبيل المثال فقط: ضرب الخمر على الجيوب، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ، النهي عن الضرب بالأرجل حتى لا تعلم الزينة، سؤال المتاع من وراء حجاب، منع الخضوع بالقول، قوله "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، منع الخلوة، قوله "إياكم والدخول على النساء"، وقوله "الحمو الموت"، ومنع التعطر في الطريق، وقوله "استأخرن فليس لكن أن تحققن الطريق"، وقوله "لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له"، وقوله "لا أصافح النساء" ، وقوله "شر صفوف النساء أولها"، لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، وقوله : طوفي من وراء الرجال، وأمر المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار، فجاءته إحداهما تمشي على استحياء، وغيرها، فحين يقرأ المسلم المتجرد الباحث عن الحق كل هذه المنظومة المتماسكة من التشريعات التي تستهدف سد كل الطرق المفضية لتطبيع العلاقات بين الجنسين، فهل يشك أن من مقاصد الشريعة التي يريدها الله ويحبها "التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين، ومنع الاختلاط وما هو أسهل منه" ؟! لأن هذا من قربان الزنا بلا شك.
ومثل هذه المحكمات يتركها هؤلاء الكتاب ويذهبون يتعللون بكون المرأة تساعد في الحروب، أو أن النساء يختلطن في المطاف، أو أن النساء كن يبعن ويشترين في السوق، أو كون المرأة تقم المسجد، ونحو هذه النصوص المحتملة .. فهل هؤلاء يبحثون عن الحق ، أم أنهم أصحاب أهواء مسبقة ويبحثون لها عن مستند يؤيدها؟! فمن قدح في مثل تلك المحكمات بمثل هذه الاحتمالات، فلن يعييه ولن يعجزه –أيضاً- أن يستحل جمهور المسكرات المعاصرة باعتبارها خمراً من غير العنب ، وأن يستحل جمهور الربويات المعاصرة باعتبارها أوراقاً نقدية لا ذهباً وفضة، وأن يستحل سائر العلاقات غير المشروعة بين الجنسين باعتبارها علاقات بريئة، ولقاءات شريفة، تجمعها العفة، ويوقرها العلم.
والمراد هنا أن من أهدر قاعدة (المحكم والمتشابه) فليست المشكلة عنده في بعض آحاد الأحكام الشرعية التي انتهكها، وإنما المشكلة الجوهرية عنده في تسلسل الانحلال عن ربقة التكليف، التي هي أساس التشريع، وهو تمحيص الانقياد واختبار التسليم، بل إن العاقل المتبصر لا تخطيء عينه الهوى المتبع والشهوات المقدمة على المحكمات، ومحبة شيوع الفاحشة في المؤمنات في كتابات هؤلاء ودعواتهم.
وصدق الله عز وجل في قوله : (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً).
...
إن من الناس من يكون صادقاً في طلب الحق ولكنه يصاب بشيء من الشبه في بعض الموضوعات التي يشغب بها الذين في قلوبهم مرض، ولعلي أتكلم عن شبهة واحدة فقط في موضوع الاختلاط لكثرة طرقها من هؤلاء وهي متعلقة بمفهوم الاختلاط المحرم وضابطه لكي تتضح صوره، ومن خلال ذلك يمكن أن نفرق بين ما هو اختلاط محظور ينطبق عليه حكم التحريم وبين ما هو دون ذلك؛ حيث إنه لا يزال البعض يختزل حكم الاختلاط، ويتجرأ على القول بإباحته بناء على الصور التي في ذهنه كالالتقاء العابر أو التقابل غير المقصود الذي يقع في الأماكن العامة في الشوارع والأسواق و المساجد و نحوها، ثم يأتي بعد ذلك يقيس جميع صور الاختلاط على هذه الصورة التي في مخيلته، ولاشك أن هذا تجن واضح و تحريف للكلم عن مواضعه، وقول على الله بغير علم.
ولكي نزيل هذه الإشكال عند البعض والتشغيب عند البعض الآخر فإننا نبادر إلى تمييز الاختلاط المحرم من غيره، فالاختلاط المحرم هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم اجتماعاً يرفع الكلفة و يزيد الألفة وهو كذلك تزاحم بالأبدان و تماسها، ففي هذا البيان لمفهوم الاختلاط نلحظ الإشارة إلى نوعي الاختلاط سواء كان في تماس الأبدان و تقارب الأنفاس ولو لم يكن هناك سابق معرفة كما يحدث في الأماكن المزدحمة و الضيقة وهذا ما يسمى بالاختلاط الحسي، أو كان هذا الاختلاط بدون تماس غالباً ولكنه يزيل الكلفة ويزيد اللفة، كما هو الحاصل في التعليم المختلط والعمل المختلط، حيث تتكسر الكثير من الحواجز بين الجنسين بسبب طول الاجتماع، فقد يرى الرجل زميلته في العمل أكثر من زوجته، وكذلك العكس، فينتج عن ذلك ارتفاع الكلفة و زيادة الألفة فيحصل بذلك تقارب القلوب والنفوس واستحسان للمحادثة و تلذذ بالجلوس والحديث وتبادل النكات والطرائف وقد يفضي بهم الحال إلى أن يدعوها أو تدعوه لتناول الطعام سوياً، بحجة الزمالة وقِدَم المعرفة وثقتها بأخلاقه، وهنا مكمن الخطر ومكان الضرر،
وهذه المآلات هي أحد الأسباب التي منعت الشريعة الاختلاط بسببها حيث إنها نتيجة طبيعية للمخالطة، وقد قال الله عز وجل في كتابه (ولا تقربوا الزنا) ولم يقل : لا تزنوا، فكل الأمور المفضية إلى الزنا تحرم بسبب إفضائها إليه، بل إن الشيء الذي يُطمع الرجال في المرأة يحرُم، بسبب ما يفضي إليه، ومن ذلك الخضوع في القول، والضرب بالأرجل لمعرفة الزينة بالخلخال ونحوه، فقد قال الله عز وجل (ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) وقال تعالى: ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) فإذا كان الله قد حرم على المرأة أن تخضع بالقول ولو لمرة واحدة مع رجل لا تعرفه في سوق أو مكان عام، فما بالك بالخضوع بالقول بشكل دوري و يومي، بل وأشدُّ من ذلك كالتبسم والضحك والتبسط في الحديث وطول المقابلة والجلوس، وما يفضي إليه ذلك من الفساد في تعلق القلوب بغير الله تعالى، والخيانات الأسرية، والزيجات العرفية التي تتم بغير إذن الأهل، وقد يصل ذلك إلى التحرش الجنسي والزنا وهما نتيجتان طبيعيتان ومتكررتان من نتائج الاختلاط المعروفة، والله المستعان.
hglEJpJ;JJJl ,hgJlEJjJaJJJhfAi td hghoJJjJJJJgh'