ابن جبرين.. وأفــل الضـــيـــاء..
كتبه/ عبدالله بن محمد الحربي الحمد لله المتفرد بالبقاء والدوام، القائل لنبيه المصطفى وحبيبه المجتبى محمد صلوات ربي وسلامه عليه (إنك ميت وإنهم ميتون) والقائل (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِت فهم الخالدون).. والصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد صلى الله عليه وسلم القائل: (جاءني جبريل عليه السلام فقال يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه).. وبعد..
فقد رُزئت أمة الإسلام في كافة أنحاء الأرض بفقد وموت سماحة الإمام الأجلّ والعالم الأمثل سماحة الشيخ الوالد عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن إبراهيم بن فهد بن حمد بن جبرين. لقد كان سماحته جامعة، ولكن ليس كالجامعات المعروفة، بل كان من نوع آخر، إنه جامعة ربانية يؤمها الناس لينهلوا من علمه وفقهه وأدبه، لقد كان قدوة يُحتذى به، كان سدا منيعاً أمام أعداء الدين، لقد كان جدارا للإسلام في عصره، كان الجبل الشامخ الذي يهابه المبتدعة وأهل الضلال والانحراف، كان الشيخ صادحا بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، لقد كانت الفتوى منه ينتظرها العالم ليروا فيها قول ربنا وحكمه من خلال صدق هذا العالم الصادق الجريء، العالم بأسره يعرف أن الشيخ رحمه الله كان صاحب اتباع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وحريص أشد الحرص عليها، كان ينصح للأمة ولا يغشها، كان رحمه الله أبعد الناس عن مواطن الشهرة فضلا عن طلبها، وكان يعيش عِيشة المساكين ويحب المساكين ولم يسكن القصور – مع قدرته على سكنها – ، كان رحمه الله يستقبل الصغير والكبير ويرحب بالجميع، كان بخفة نفسه وروحه كمن عمره في الثلاثين وليس في السادسة والسبعين.
لقد كان بإمكان سماحة الشيخ أن يستغل فضله وعلمه وقدره لجني الأموال الطائلة (كما يفعل البعض وللأسف باسم الدين والدعوة)!! ولكن هيهات لمال الدنيا كله أن يغري عالما ربانيا همه وهدفه ومبتغاه إرضاء ربه والسير على نهج نبيه صلوات ربي وسلامه عليه والحرص على أمته فرحمه الله رحمة واسعة.
لم يكن للشيخ وقت يضيعه في الأحاديث التي لا طائل منها، فقد كان وقته كله لدينه وللمسلمين وقد كان يتنقل من منطقة لأخرى ومن مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى أختها كل هذا بسيارة أحد طلابه، وأحيانا في ليلة واحدة أيضا يجمع بين هذه الرحلات، وتجده أثناء المسير – حسب رواية بعض طلابه – أنه يستمع لبعض الأشرطة ويعلق عليها، أو يطلب من أحد المرافقين قراءة كتاب فيشرح ويعلق بدقة وحرص، وكان رحمه الله بعكس عامة الناس فتراه يمتلئ همة وحيوية حين يكسل الناس، وتجده خصوصا في الصيف حين يلجأ الناس إلى المصايف والمتنزهات تراه يقيم دواته العلمية في شتى فنون العلوم الشرعية ويتنقل ما بين غرب السعودية إلى شرقها ومن شمالها إلى جنوبها دون كلل أو ملل أو تذمر.. بل تراه يذهب لمسافة 200 إلى 300 كيلو متر لإلقاء محاضرة أو درس فقط ثم يعود ثانية.. أي همة هذه وأي بأس هذا؟! ولقد خلّف هذا الإمام الجليل كنوزاً من الفقه والعلم وشتى أنواع العلوم.
ويروي أحد طلابه أنه طلب من الشيخ مرافقته لإحدى هذه الرحلات وحصل كما ذكرنا أن ذهبوا وألقى الشيخ درسه ثم عادوا بعد منتصف الليل، وقد كان صاحب القصة منهك من التعب، يقول فسارع إلى النوم مباشرة، يقول فاكتشفت في اليوم الثاني أن الشيخ رحمه الله كان يقوم الليل تهجدا لله..!! الله أكبر ما أعظم الهمة وما أعظم الهم.
ومعروف أن الشيخ رحمه الله كان يزور الأمراء ويناصحهم وهم يُجلّونه ويحترمونه – لأنه حفظ نفسه وصانها عن مطامع الدنيا فكبُر قدره – فممن يزورهم أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبدالعزيز، فينقل أحد الثقات أن الشيخ إذا أتى لزيارة سمو الأمير – ولا يزوره لمصلحة شخصية بل لمناصحة أو إبداء رأي في مسألة عامة أو لشفاعة حسنة – فإن الأمير حتى ولو كان عنده ضيف في مكتبه فإنه يعتذر منه ويسارع لاستقبال الشيخ رحمه الله قبل أن يصل إلى مكتبه وذلك عرفانا من الأمير سلمان بقدر هذا العالم الجليل الذي حفظ نفسه بما لديه من موروث النبوة، وحين صان هذا الموروث العظيم عظُم هذا الرجل في أعين الرجال، وهكذا العلم مع من صانه.
من جلس مع الشيخ وعرفه يعلم مدى ما أحدث موته من فراغ كبير نسأل الله أن يقيض من يسد هذا الشرخ العظيم وأن يخلف لنا بخير.
بعثت أنا – كاتب هذه السطور – منذ ثلاث سنوات تقريباً إلى سماحة الشيخ رحمه الله رسالة صغيرة الحجم كبيرة المحتوى تتحدث عن سيرة شيخنا سماحة الشيخ العلامة الوالد عبدالرحمن عبدالخالق حفظه الله ورعاه وألبسه ثوب الصحة والعافية، فقرأ الرسالة وأعجب بها وكتب بخط يده يثني على الشيخ الثناء العاطر والكلام النوراني الذي لا يمكن أن يقوله إلا عالم منصف وقال في نهاية تقديمه الذي كتبه لسيرة علامة الكويت قال (وكم كنت أتمنى أن ألتقي بهذا الشيخ الجليل..)
يقصد شيخنا الوالد عبدالرحمن عبدالخالق.
وإن يوم الإثنين الذي توفي فيه علم الأمة وإمام أهل السنة لهو يوم من أيام الحزن والأسى والبؤس أن يرحل مثل هذا الإمام الأجلّ والعالم الأمثل سماحة الشيخ عبدالله ابن جبرين، وقد أتعبت من بعدك يا سماحة الشيخ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل العلماء كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة).
وقال الحسن رحمه الله: "موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار"، وقيل لـسعيد بن جبير رحمه الله: "ما علامة الساعة وهلاك الناس؟ قال: إذا ذهب علماؤهم".
سماحة الشيخ الإمام عبدالله ابن جبرين لقد اختصرت ذلك الزمن الطويل بلحظات حزينة أورثتنا إياها، سنفتقد ذلك البطل الذي لا يخشى في الله لومة لائم في إنكار المنكرات صغيرها وكبيرها، سنفقد ذلك الجبل الأشم الشامخ المدافع والمنافح والمناضل من أجل نصرة عقيدتنا والذب عن أعراض المشايخ والعلماء والدعاة، وسيفقد أهل الإسلام ذلك الصوت الشجي الحزين والقوي في الحق الذي لطالما ناصرهم وناصر العلماء والدعاة والمجاهدين ولم يلتفت لمن يطعن فيه أو بنيّته، فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتغمدك برحماته وغفرانه ورضوانه وأن يسكنك جناته جنات النعيم برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين..
ولا نقول يا شيخنا ويا إمامنا ويا معلمنا إلا ما يرضي ربنا وخالقنا، فإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون..
وقد توفي سماحة الشيخ الإمام عبدالله ابن جبرين ظهر يوم الإثنين
بتاريخ: 20/ رجب الحرام / 1430هـ ، الموافق: 13 /7 /2009م
فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.