03 / 06 / 2018, 52 : 03 PM | المشاركة رقم: 1 |
المعلومات | الكاتب: | | اللقب: | عضو ملتقى ماسي | البيانات | التسجيل: | 21 / 01 / 2008 | العضوية: | 19 | المشاركات: | 30,241 [+] | بمعدل : | 4.92 يوميا | اخر زياره : | [+] | معدل التقييم: | 0 | نقاط التقييم: | 295 | الإتصالات | الحالة: | | وسائل الإتصال: | | | المنتدى : الملتقى العام بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبعد: فإن الله عز وجل اختص شهر رمضان بخصائص عظيمة عن غيره من الشهور، فهو شهر الصيام والقيام والقرآن، وشهر الجهاد والانتصارات، شهر الجود والخيرات والبركات والنفحات، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر من حُرِمَ خيرها فقد حُرِمَ الخير كله، وفيه لله عز وجل في كل ليلة عتقاء من النار، ومن أفضل أيام وليالي هذا الشهر، العشر الأواخر التي فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. فما هو فضل هذه الأيام العشر، وما هي الأعمال المستحبة فيها، وكيف كان حال النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الأيام العشر الأواخر من رمضان؟ أولاً: حال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر: أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله" (أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب صلاة التراويح - باب العمل في العشر الأواخر من رمضان - حديث: [1935]). وفي رواية لمسلم عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره" (أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الاعتكاف - باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان - حديث: [2083]). قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصّ العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر فمنها: أولاً: إحياء الليل؛ فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، وقد روي من حديث عائشة رضي الله عنها من وجهٍ فيه ضعف بلفظ: "وأحيا الليل كله" وفي المسند من وجه آخر عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر -يعني الأخير- شمَّر وشد المئزر" (أخرجه أحمد في مسنده - مسند الأنصار - الملحق المستدرك من مسند الأنصار - حديث السيدة عائشة رضي الله عنها - حديث: [24608]). وخرّج الحافظ أبو نعيم بإسناد فيه ضعف عن أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد رمضان قام ونام، فإذا كان أربعاً وعشرين لم يذق غمضاً" (حلية الأولياء - الربيع بن صبيح - حديث: [9003]). ويحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه. وقال مالك في الموطأ: "بلغني أن ابن المسيب قال: من شهد ليلة القدر يعني في جماعة فقد أخذ بحظه منها". وقال الشافعي في القديم: "من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها". ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي؛ وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام بهم ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين ذكر أنه دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين خاصة. وهذا يدل على أنه يتأكد إيقاظهم في أكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر. وخرّج الطبراني من حديث علي رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان وكل صغير وكبير يطيق الصلاة" (أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط - باب العين - باب الميم من اسمه: محمد - حديث: [7566]). قال سفيان الثوري رحمه الله: "أحب إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك". وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرق فاطمة وعلياً رضي الله عنهما ليلاً، فيقول لهما: «ألا تقومان فتصليان»، وكان يوقظ عائشة رضي الله عنها بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء في وجهه. ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشد المئزر: واختلفوا في تفسيره فمنهم من قال: "هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة"، كما يقال فلان يشد وسطه ويسعى في كذا وهذا فيه نظر فإنها قالت: "جد وشد المئزر" فعطفت شد المئزر على جده. والصحيح: أن المراد: اعتزاله النساء، وبذلك فسّره السلف والأئمة المتقدمون، منهم: سفيان الثوري. وقد ورد ذلك صريحاً من حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما، وورد تفسيره بأنه لم يأوِ إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان، وفي حديث أنس "وطوى فراشه واعتزل النساء" وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غالباً يعتكف العشر الأواخر. والمعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص والإجماع، وقد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} إنه طلب ليلة القدر. قال الإمام ابن رجب رحمه الله: "والمعنى في ذلك: أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر، لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر، فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل، خصوصاً في الليالي المرجو فيها ليلة القدر، فمن ههنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصيب من أهله في العشرين من رمضان ثم يعتزل نساءه، ويتفرّغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر" (لطائف المعارف [ص:26]). رابعاً: تأخيره للفطور إلى السحر: وروي عنه من حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما: "أنه صلى الله عليه وسلم كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحوراً" (أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط - باب العين - باب الميم من اسمه: محمد - حديث: [5757]). خامساً: اغتساله بين العشاءين: روي من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يغتسل بين العشاءين كل ليلة يعني من العشر الأواخر وفي إسناده ضعف". وقال ابن جرير: "كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر". وكان النخعي: "يغتسل في العشر كل ليلة". ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، فأمر ذر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان. وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيّب ولبس حلة إزار أو رداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل" (لطائف المعارف: [ص:272]). وكان أيوب السختياني: يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر، ويقول: "ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة، والتي تليها ليلتنا يعني البصريين". وقال حماد بن سلمة: "كان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيّبان، ويطيبون المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر". وقال ثابت: "كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر". قال الإمام ابن رجب رحمه الله: "فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن، كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد، وكذلك يشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات، كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف من الآية:31]". وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "الله أحق أن يتزين له" (لطائف المعارف: [ص:272]). ثانياً: الأعمال المستحبة في هذه الأيام: 1- الاعتكاف: عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان" (أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الاعتكاف - باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان - حديث: [2076]). قال الإمام ابن بطال رحمه الله: "فهذا يدل على أن الاعتكاف من السنن المؤكدة؛ لأنه مما واظب عليه النبي عليه السلام فينبغي للمؤمنين الاقتداء في ذلك بنبيهم، وذكر ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول: عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف، وإن النبي عليه السلام لم يتركه منذ دخل المدينة كل عام في العشر الأواخر حتى قبضه الله" (شرح صحيح البخاري: لابن بطال ج4، [ص:181]). وقال القاضي عياض رحمه الله: "وفيه استحباب كونه في العشر الأواخر من رمضان لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لقوله: "كان يعتكف"، وأكثر ما يستعمل هذا فيما كان يداوم عليه، مع ما دلّت عليه نصوص الآثار من تكراره، ولأن ليلة القدر مطلوبة في تلك العشر" (إكمال المعلم شرح صحيح مسلم: ج4، [ص:151]). وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى" (أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الاعتكاف - باب الاعتكاف في العشر الأواخر - حديث: [1937]، وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الاعتكاف - باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان - حديث: [2080]). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين" (أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الاعتكاف - باب الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان - حديث: [1954]). قال الإمام ابن رجب رحمه الله: "وإنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العشر التي يطلب فيها ليلة القدر قطعاً لأشغاله، وتفريغاً للياليه، وتخلياً لمناجاة ربه وذكره ودعائه. وكان يحتجر حصيراً يتخلّى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم" (لطائف المعارف: [ص:273]). فمعنى الاعتكاف وحقيقته: "قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال، كان بعضهم لا يزال منفرداً في بيته خالياً بربه فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني" (المرجع السابق: نفس الموضع). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ومقصود الاعتكاف وروحُه عكوفُ القلبِ على الله تعالى، وجمعيَّتُه عليه، والخلوةُ به، والانقطاعُ عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذِكره وحُبه، والإقبالُ عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلَها، ويصير الهمُّ كُلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكُر في تحصيل مراضيه وما يُقرِّب منه، فيصيرُ أُنسه بالله بدَلاً عن أُنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوَحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرحُ به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم" (زاد المعاد: ج2، [ص:87]). إن الاعتكاف وسيلة من وسائل التربية النبوية التي أرشدنا إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث أنه عنصر تهذيب ظاهر ويظهر ذلك في الآتي: أ- "ففي الاعتكاف خروج من دائرة الحياة اليومية وتأثيرها الكبير على النفس وانشغالها ودورانها في حركة لا تتوقف من أجل تحصيل مصالح الدنيا ومنافع العيش، مما يجعلها تغفل عن المحاسبة والمراجعة والتعديل والإصلاح، لذا كان في الاعتكاف فرصة ذهبية لأن يراجع كل مسلم حياته فيرى نقاط الإجادة ونقاط التقصير والإهمال فيزيد من الأول وينقص من الآخر ما وسعه الجهد والطاقة. ب- في الاعتكاف عزلة محمودة تتيح للإنسان أن يخلو بنفسه وأن يحادثها عن أمانيه وأحلامه الماضية التي لم تتحقق كما يخبرها عن آماله في المستقبل، ويدرس ذلك بتأنٍّ وتؤده، ويختار ما يستطيع أن يحققه، فيستدرك ما قد يكون فاته، ويعزم على أن لا يفوته في المستقبل أن يرى آماله قد حُققت في أرض الواقع. ج- وفي الاعتكاف انشغال بما هو أهم وأجدى وأنفع للإنسان من قراءة القرآن وذكر الله وصلاة وقراءة عن أعلام الصحابة والسلف الصالح، وفي ذلك تعويد له لأن يكون ذلك عادة حياته وفي مختلف مراحلها، فيترك التوافه والصغائر والأمور غير ذي الجدوى أو ذات الجدوى القليلة، التي بتركها لا يكون هناك تأثير ملحوظ على مسيرة الإنسان في هذه الحياة. د- والأهم مما سبق؛ أن المعتكف يعتكف على طاعة الله ويقيم عليها مدة اعتكافه، فهو يعتكف في أحب الأماكن إليه سبحانه (المساجد)، ويقيم فيها على الطاعة والعبادة والابتهال والخضوع والخشوع، فلا يكون همه إلا الله ولا مقصوده إلا إياه سبحانه، ولا مراده سواه عز وجل، وبحيث يخرج من الاعتكاف وقد اعتكف قلبه على طاعة الله فحسب، لا ينظر ولا يقصد ولا يبتغى أحداً سواه، فيكون منيباً إليه سبحانه" (انظر: موسوعة كنوز رياض الصالحين: مجموعة علماء إشراف الأستاذ الدكتور حمد بن ناصر العمار ج15، [ص:347] وما بعدها طبعة دار كنوز اشبيليا بالرياض). وفي ذلك يقول ذلك يقول ابن القيم رحمه الله كلمات مشرقة: الإنابة هي عكوف القلب على الله عز وجل، كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله. ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوّعة كما قال إمام الحنفاء لقومه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]، فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فكان حظ قومه العكوف على التماثيل وكان حظه العكوف على الرب الجليل. والتماثيل جمع تمثال، وهو الصورة الممثلة، فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به، والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام، ولهذا كان شرك عباد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإرادتهم على تماثيلهم. فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته، بحيث يكون عاكفاً عليها فهو نظير عكوف الأصنام عليها، ولهذا سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم عبداً لها، ودعا عليه بالتعس والنكس، فقال: «تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش» (أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الحراسة في الغزو في سبيل الله - حديث: [2752]، الفوائد: [ص:196]، طبعة دار الكتب العلمية بيروت). 2- أن في هذه الأيام ليلة القدر: فضل ليلة القدر: قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1-3] لماذا سميت بليلة القدر؟ سُمِّيت بذلك لأن اللّه تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة؛ من أمر الموت والأجل والرزق وغيره. ويسلمه إلى مدبرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم السلام. - وقيل: "إنما سُمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر؛ أي شرف ومنزلة. قال الزهري وغيره". - وقيل: "سُمّيت بذلك لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً، وثواباً جزيلاً". - وقال أبو بكر الوراق: "سُمّيت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها". - وقيل: "سُمّيت بذلك لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر". - وقيل: "لأنه ينزل فيها ملائكة ذوي قدر وخطر". - وقيل: "لأن اللّه تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة". - وقال سهل: "سُمّيت بذلك لأن اللّه تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين". - وقال الخليل: "لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضيق" (تفسير القرطبي: ج20، [ص:130] وما بعدها). وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "وفي تسميتها بليلة القدر خمسة أقوال: أحدها: أنها ليلة العظمة، يقال: لفلان قدر قاله الزهري. ويشهد له: وما قدروا الله حق قدره. والثاني: أنه الضيق؛ أي هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون قاله الخليل بن أحمد ويشهد له: ومن قدر عليه رزقه. والثالث: أن القدر الحكم كأن الأشياء تقدر فيها؛ قاله ابن قتيبة. والرابع: لأن من لم يكن قدر صار بمراعاتها إذا قدر؛ قاله أبو بكر الوراق. والخامس: لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر وينزل فيها رحمة ذات قدر وملائكة ذوو قدر حكاه شيخنا علي بن عبيد الله" (التبصرة: ج2، [ص:98] وما بعدها). واختلف في ليلة القدر والحكمة في نزول الملائكة في هذه الليلة: إن الملوك والسادات لا يحبون أن يدخل دارهم أحد حتى يزينون دارهم بالفرش والبسط، ويزينوا عبيدهم بالثياب والأسلحة، فإذا كان ليلة القدر أمر الرب تبارك وتعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض، لأن العباد زينوا أنفسهم بالطاعات بالصوم والصلاة في ليالي رمضان، ومساجدهم بالقناديل والمصابيح، فيقول الرب تعالى: أنتم طعنتم في بني آدم وقلتم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة من الآية:30]. فقلت لكم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة من الآية:30]، اذهبوا إليهم في هذه الليلة حتى تروهم قائمين ساجدين راكعين لتعلموا أني اخترتهم على علم على العالمين (لطائف المعارف: [ص:275]). قال مالك: "بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر". وقال النخعي: "العمل فيها خير من العمل في ألف شهر" (لطائف المعارف: [ص:275]). وليلة القدر ليلة عظيمة مباركة اختصها الله عز وجل بفضائل وخصائص كثيرة عن غيرها من الليالي منها: 1- أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم في هذه الليلة، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}. عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن القرآن الكريم أُنْزِل في ليلة القدر جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلي بيت العِزَّة في السماء الدنيا" (تفسير ابن كثير: ج4، [ص:648]). 2- أن الله عز وجل العظيم؛ عظَّم شأنها وذكرها بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي: أن دراية علوها ومنزلتها خارج عن دائرة دراية الخلق، فلا يعلم ذلك إلا علام الغيوب جل جلاله. 3-إن العبادة والعمل الصالح فيها: من الصيام والقيام والدعاء وقراءة القرآن خيراً من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. قال الإمام الطبري رحمه الله: "عمل في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر" (تفسير الطبري: ج24، [ص:534] طبعة مؤسسة الرسالة بيروت). 4- ليلة القدر لا يخرج الشيطان معها: ودليل ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمس تطلع كل يوم بين قرني الشيطان إلا صبيحة ليلة القدر» (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف - كتاب صلاة التطوع والإمامة وأبواب متفرقة - في ليلة القدر - حديث: [8535]). وفي رواية عند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ» (أخرجه أحمد في مسنده - مسند الأنصار - حديث عبادة بن الصامت - حديث: [22173]، وحسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: [5472]). وفي رواية ابن حبان عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها» (أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصوم - باب الاعتكاف وليلة القدر - ذكر وصف ليلة القدر باعتدال هوائها وشدة ضوئها - حديث: [3748]). ولذلك قال رب العالمين فيها: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر}، فهي ليله كلها خير وسلام، سالمة من الشيطان وأذاه. عن ابن عباس رضي الله عنهما: "في تلك الليلة تُصفَّد مردة الجن، وتُغلُّ عفاريت الجن وتفتح فيها أبواب السماء كلها ويقبل الله فيها التوبة لكل تائب" (فتح القدير: للإمام الشوكاني؛ ج5، [ص:473] طبعة دار الفكر بيروت). وقال مجاهد: "هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوء ولا يحدث فيها أذى" (تفسير ابن كثير: ج4، [ص:650]). وقال أيضاً: "لا يُرسَل فيها شيطان ولا يحدث فيها داء". 5-أن الملائكة والروح تَنَزَّل في هذه الليلة، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}. والمقصود بالروح: هو جبريل عليه السلام. وأخرج ابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة القدر ليلة السابعة أو التاسعة وعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى، والملائكة تنزل بالرحمات والبركات والسكينة، وقيل: تتنزل بكل أمر قضاه الله وقدره لهذه السنة» (أخرجه ابن خزيمة في صحيحه - كتاب الصيام - جماع أبواب ذكر الليالي التي كان فيها ليلة القدر في زمن - باب ذكر كثرة الملائكة في الأرض ليلة القدر - حديث: [2036]، وحسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: [5473]). 6- أن الأمن والسلام يحل في هذه الليلة على أهل الإيمان: قال تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر}؛ واختلفوا في تفسير هذه الآية على أقوال: فقيل: "سلام من الشر كله، فلا يكون فيها إلا السلامة"، وقيل: "تنزل الملائكة في هذه الليلة تسلم على أهل الإيمان"، وقيل: "لا يستطيع الشيطان أن يمسَّ أحداً فيها بسوء"، وقيل غير ذلك. عن الشعبي في قوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} قال: تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد حتى يطلع الفجر". وقال قتادة وابن زيد في قوله: {سَلامٌ هِيَ} يعني هي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر" (تفسير ابن كثير: ج4، [ص:650]). وقال الإمام ابن العربي رحمه الله: بعد أن حكى ثلاثة أقوال في سبب هبة ليلة القدر لهذه الأمة والمنة عليهم بها، قال: "والصحيح هو الأول: أن ذلك فضل من الله، ولقد أعطيت أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل ما لم تعطه أمة في طول عمرها، فأولها أن كتب لها خمسون صلاة بخمس صلوات، وكتب لها صوم سنة بشهر رمضان، بل صوم سنة بثلاثين سنة في رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وحسبما بيناه في الصحيح، وطهر مالها بربع العشر، وأعطيت خواتيم سورة البقرة من قرأها في ليلة كفتاه يعني عن قيام الليل، وكتب لها أن من صلى الصبح في جماعة فكأنما قام ليلة، ومن صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة، فهذه ليلة ونصف في كل ليلة؛ إلى غير ذلك مما يطول تعداده. ومن أفضل ما أعطوا ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر؛ وهذا فضل لا يوازيه فضل، ومنة لا يقابلها شكر" (أحكام القرآن: لابن العربي ج4، [ص:473] طبعة دار الحديث بالقاهرة). 7-أنها ليلة مباركة قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان من الآية:3]. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخبراً عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة، وهي ليلة القدر كما قال عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تبارك وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}" (تفسير ابن كثير: ج4، [ص:167]). قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يعني ليلة القدر أن مَن قامها إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه". 8- يتم فيها تقدير مقادير السنة: قال تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان من الآية:4]. قال ابن رجب رحمه الله: "روي عن عكرمة وغيره من المفسرين في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}؛ أنها ليلة النصف من شعبان، والجمهور: على أنها ليلة القدر، وهو الصحيح". اهـ 3- تحرّي ليلة القدر في الليالي الوتر من هذه العشر: وقد ورد في فضل ليلة القدر وتحريها في الليالي الوتر أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه» (أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصوم - باب من صام رمضان إيماناً واحتساباً ونية - حديث: [1811]). قال الإمام ابن بطال رحمه الله: "قوله: «إيمانًا» يريد تصديقًاً بفرضه وبالثواب من الله تعالى، على صيامه وقيامه، وقوله: «احتسابًا»، يريد بذلك يحتسب الثواب على الله، وينوى بصيامه وجه الله" (شرح صحيح البخاري: لابن بطال ج4، [ص:21]). وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» (أخرجه أحمد في مسنده - مسند الأنصار - حديث عبادة بن الصامت - حديث: [22124]). وقد بيّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ليلة القدر ليست في ليلة معينة وإنما أرشدنا إلى تحري هذه الليلة المباركة وطلبها في الليالي الوتر من العشر الأواخر وقد جاءت في ذلك أحاديث كثيرة منها: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» (أخرجه البخاري - كتاب صلاة التراويح - باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر - حديث: [1929]، وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب فضل ليلة القدر - حديث: [2072]). عن ابن عمر رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان متحرياً فليتحرها ليلة سبع وعشرين» -أو قال- «تحروها ليلة سبع وعشرين» (أخرجه أحمد في مسنده - ومن مسند بني هاشم - مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما - حديث: [6298]، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: [2920]). وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، إني شيخ كبير عليل يشق علي القيام فأمرني بليلة لعل الله يوفقني فيها لليلة القدر، فقال: «عليك بالسابعة» (أخرجه أحمد في مسنده - ومن مسند بني هاشم - مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب - حديث: [2091]). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاماً حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين -وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه- قال: «من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد أُريتُ هذه الليلة ثم أُنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر»، فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف [1] المسجد فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين" (أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الاعتكاف - باب الاعتكاف في العشر الأواخر - حديث: [1938]، وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب فضل ليلة القدر - حديث: [2068]). قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: "وفي الحديث دليل لمن رجح ليلة إحدى وعشرين في طلب ليلة القدر ومن ذهب إلى أن ليلة القدر تنتقل في الليالي فله أن يقول: كانت في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين ولا يلزم من ذلك: أن تترجح هذه الليلة مطلقاً والقول بتنقلها حسن لأن فيه جمعاً من الأحاديث وحثاً على إحياء جميع تلك الليالي" (إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: ج1، [ص:292]). وعن زر بن حبيش قال: "سمعت أبي بن كعب يقول: وقيل له إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر، فقال أبي: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف ما يستثني، والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها لا شعاع لها" (أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب الترغيب في قيام رمضان - حديث: [1312]). وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "اعتكفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا وقال: «إني رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها -أو نسيتها-، فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، إني رأيت أني أسجد في ماء وطين فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع» فرجعنا وما نرى في السماء قزعة، فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل -وأُقيمت الصلاة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته" (أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب صلاة التراويح - باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر - حديث: [1928]، وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب فضل ليلة القدر - حديث: [2069]). وعن عبد الله بن أنيس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها وإذا بي أسجد صبيحتها في ماء وطين». قال: فمطرنا في ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف، وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه" (أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب فضل ليلة القدر - حديث: [2071]). وعن أبي بكرة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «التمسوها في تسع بقين أو سبع بقين، أو خمس بقين، أو ثلاث بقين، أو آخر ليلة» (أخرجه ابن خزيمة في صحيحه - كتاب الصيام - جماع أبواب صوم التطوع - باب ذكر الدليل على أن الأمر بطلب ليلة القدر في الوتر- حديث: [2021]). وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الناس فقال: «يا أيها الناس إنها كانت أبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة، والخامسة، والسابعة» قال: قلت يا أبا سعيد: إنكم أعلم بالعدد منا، فقال: أجل نحن أحق بذلك منكم، قال: قلت: ما التاسعة، والسابعة، والخامسة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها اثنان وعشرون فهي التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضت خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة" (أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب فضل ليلة القدر - حديث: [2070]). وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى» (أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب صلاة التراويح - باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر - حديث: [1932]). وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرياً فليتحرها في السبع الأواخر» (أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب صلاة التراويح - باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر - حديث: [1927]، صحيح مسلم - كتاب الصيام - باب فضل ليلة القدر - حديث: [2059]). وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: «خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» (أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب صلاة التراويح - باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس - حديث: [1934]). قال الإمام البغوي رحمه الله: "وفي الجملة: أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا بالعبادة ليالي رمضان طمعاً في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها وأخفى قيام الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذراً من قيامها. إذا تقرر هذا وعلمت ما ورد من الحث عليها، فاعلم أنه ينبغي لكل موفق مريد للكمال والسعادة الأبدية أن يبذل وسعه ويستفرغ جهده في إحياء ليالي العشر الأخير وقيامها لعله أن يصادف تلك الليلة الجليلة التي اختص الله تعالى بها هذه الأمة، وآتاهم فيها من الفضل ما لا يحصره العدد" (تفسير البغوي: ج8، [ص:490]). وقال الإمام البيهقي رحمه الله: "ومعنى ليلة القدر: الليلة التي يقدر الله تعالى لملائكته جميع ما ينبغي أن يجري على أيديهم من تدبير بني آدم ومحياهم ومماتهم إلى ليلة القدر من السنة القابلة وكان يدخل في هذه الجملة أيام حياة النبي صلى الله عليه وسلم أي يقدر فيها ما هو منزله من القرآن إلى مثلها من العام القابل. فقال الله تعالى في وصف هذه الليلة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} أي مبارك فيها لأولياء الله عز وجل فإنها جعلت خيراً من ألف شهر أحيوها فقدروها حق قدرها واقطعوها بالصلاة وقراءة القرآن والذكر دون اللغو واللهو ثم قال: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ . فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان من الآية:3-4]؛ أي كل أمر مبني على السداد والحكمة. ومعنى {يُفْرَقُ} يفصل ليكون ما يلقى إلى الملائكة في السنة مقدراً بمقدار يحصره عليهم" (فضائل الأوقات: أحمد بن الحسين البيهقي أبو بكر ج1، [ص:214]). 4 - علامات ليلة القدر: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله قال في ليلة القدر: «ليلة سمحة طلقة لا حارة ولا باردة تصبح شمسها صبيحتها ضعيفة حمراء» (أخرجه الطيالسي في مسنده - أحاديث النساء - وما أسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب - عكرمة مولى ابن عباس حديث: [2791]، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: [5475]). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة القدر ليلة السابعة أو التاسعة وعشرين وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى» (أخرجه ابن خزيمة في صحيحه - كتاب الصيام - جماع أبواب ذكر الليالي التي كان فيها ليلة القدر في زمن - باب ذكر كثرة الملائكة في الأرض ليلة القدر- حديث: [2036]، وحسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: [5473]). وعن زر بن حبيش قال: سمعت أُبيّ بن كعب يقول: وقيل له إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "من قام السنة أصاب ليلة القدر، فقال أُبيّ: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف ما يستثني، والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها لا شعاع لها" (أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب الترغيب في قيام رمضان - حديث: [1312]). 5- ما الحكمة من إخفاء ليلة القدر؟ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها بخلاف ما لو عُينت لها ليلة لاقتصر عليها (فتح الباري: ج4، [ص:266] طبعة دار المعرفة - بيروت). وقال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: "أنه تعالى أخفي هذه الليلة لوجوه: أحدها: أنه تعالى أخفاها كما أخفي سائر الأشياء، فإنه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل، وأخفى غضبه في المعاصي ليحترزوا عن الكل، وأخفى وليَّه فيما بين الناس حتى يعظموا الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف... فكذا أخفي هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان. وثانيها: كأنه تعالى يقول: لو عينت ليلة القدر وأنا أعلم بتجاسركم على المعصية، فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية فوقعت في الذنب، فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك؛ فلهذا السبب أخفيتها عليك. روى أنه عليه الصلاة والسلام: "دخل المسجد فرأى نائماً، فقال: «يا عليُّ نبهه ليتوضأ»، فأيقظه عليُّ رضي الله عنه، ثم قال عليُّ: يا رسول الله إنك سبَّاق إلى الخيرات، فَلِمَ لم تنبِّهُه؟ قال: «لأن ردَّه عليك ليس بكفر، ففعلت ذلك لتخفَّ جنايته لو أبى». فإذا كانت هذه رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف برحمة الله تعالى. فكأنه تعالى يقول: إذا علمتَ ليلة القدر؛ فإن أطعتَ فيها اكتسبتَ ثواب ألف شهر، وإن عصيتَ فيها اكتسبت عقاب ألف شهر، ودفع العقاب أولى من *** الثواب. وثالثها: أني أخفيتُ هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها حتى يكتسب ثواب الاجتهاد. ورابعها: أن العبد إذا لم يتيقَّن ليلة القدر إنه يجتهد بالطاعة في جميع ليالي رمضان، على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليله القدر؛ فيباهي الله تعالى بهم ملائكته، ويقول: كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء، فهذا جدَّه واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة له؛ فحينئذ يظهر سِرّ قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}" (انظر: تفسير الرازي: ج32، [ص:28] وما بعدها طبعة دار الكتب العلمية بيروت). 6- من الأعمال الفاضلة في هذه الأيام العشر الدعاء: من الأعمال المستحبة في هذه الليالي العشر الإكثار من الدعاء؛ فالدعاء عبادة لله عز وجل، وقد بين لنا المولى سبحانه وتعالى أنه قريب من عباده يستجيب لهم إذا دعوه فقال جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. وأخرج الحاكم في المستدرك بسند صحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل العبادة الدعاء» (أخرجه الحاكم في المستدرك - بسم الله الرحمن الرحيم أول كتاب المناسك - كتاب الدعاء حديث: [1745]، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: [1122]). وأخرج أبو دواد في سننه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة، {قَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}» (سنن أبي داود - كتاب الصلاة - باب تفريع أبواب الوتر - باب الدعاء - حديث: [1277]، وصححه الألباني في صحيح سنن أبى دواد حديث رقم: [1479]). وقال يحيى بن أبي كثير: "أفضل العبادة كلها الدعاء". وروى أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه: "أنه كان يواظب على حزبه من الدعاء كما يواظب على حزبه من القرآن"، وقال ابن مسعود رضى الله عنه: "لكل شيء ثمرة، وثمرة الصلاة الدعاء" (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: ج10، [ص:300]). فيستحب للإنسان الإكثار من الدعاء في هذه الأيام والليالي المباركة. فعن عائشة رضى الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إن وافقني ليلة القدر فماذا أقول؟ فقال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني» (أخرجه الترمذي في سننه - كتاب الذبائح - أبواب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث: [3518]، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي حديث رقم: [3513]، وصحيح الجامع حديث رقم: [4423]). قال الإمام ابن رجب رحمه الله: "وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها و في ليالي العشر لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحاً و لا حالاً ولا مقالاً فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر". قال يحيى بن معاذ: "ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو". إن كنت لا أصلح للقرب فشأنك عفو عن الذنب (لطائف المعارف [ص:228]). العَفُوّ: من أسماء الله تعالى، وهو المتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو، فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته، فالرحمة من صفات الذات والغضب من صفات الفعل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أعوذ برضاك من سخطك، وعفوك من عقوبتك» (أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب ما يقال في الركوع والسجود - حديث: [780]). قال يحيى بن معاذ رحمه الله: "لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب أكرم الناس عليه" (لطائف المعارف: [ص:228]). قال الإمام ابن رجب رحمه الله: "قال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحب إليَّ من الصلاة". ومراده: أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لم يكثر فيها الدعاء، وإن قرأ ودعا كان حسناً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجَّد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتَّلةً، لا يمرّ بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوَّذ، فجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكُّر، وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها... والله أعلم" (المرجع السابق: نفس الموضع). كانت هذه بعض الأعمال الصالحة التي يستحب فعلها في هذه الأيام والليالي العشر المباركة وبيان فضلها، نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يتقبل منّا ومنكم صالح الأعمال اللهم آمين. والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل. ـــــــــــــــــــــ 1- (وقوله: "فوكف المسجد" أي قطر يقال: وكف البيت يكف وكفاً ووكوفاً: إذا قطر ووكف الدفع وكيفاً ووكفاناً: بمعنى قطر. انظر: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: ج1، [ص:292]). أحمد عرفة (معيد بجامعة الأزهر)
u/dl hgH[v td hyjkhl hguav
|
| |