الإهداءات | |
الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح ملتقى للمواضيع الاسلامية العامة التي لا تنتمي الى أي قسم اسلامي آخر .. وقصص الصالحين من الاولين والاخرين . |
« آخـــر الــمــواضــيــع » |
كاتب الموضوع | طويلب علم مبتدئ | مشاركات | 0 | المشاهدات | 819 | | | | انشر الموضوع |
| أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
02 / 10 / 2017, 43 : 12 PM | المشاركة رقم: 1 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| المنتدى : الملتقى الاسلامي العام والسلف الصالح منهج القرآن في ترشيد العقول وإعلاء الهِمَم وترقية المواقف بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين. قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 74 - 83]. إذا كان القرآن الكريم قد حض على الإيمان والعبادة والتقوى؛ صلاة وصيامًا ونُسكًا ومعاملات إنسانية طيبة في آيات كثيرة هُنَّ قوام العمل الصالح في الإسلام، فإنه قد حض قبل ذلك في المرحلة المكية على تدبُّر النص القرآني والتفقه فيه، واتخاذه مرجعًا لاستعادة السواء إن افتُقِدَ في الأفراد والمجتمعات والأمم بقوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، كما حث على ترقية القدرات العقلية والفكرية؛ تأملًا وفهمًا وملاحظة ومقارنة وتعليلًا، وتذكرًا وانتباهًا ونقدًا واستقراءً واستنباطًا، في آيات أخرى هنَّ أُسُّ الإيمان ودعامة العبادة والتقوى، وأدوات البحث عن الحق إن خفِي، والفطرةِ إن عتَّم عليها الجهل وران عليها الضلال، وأفسدتها مواريث الأمم المتعاقبة، وتراكُمُ التقاليد السخيفة، فقال عز وجل: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف: 105]. ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 185]. ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101]. ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 50]. ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾[غافر: 57، 58]. بل إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد توعد بالويل مَن عطل عقله وتخلى عن التفكُّر والتدبر، وكان إيمانه تقليدًا أعمى واتباعًا أخرس، فيما رواه ابن عمير إذ سأل أُمَّنا عائشة رضي الله عنها قال: أخبرينا بأعجبِ شيء رأيتِه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة، ذَرِيني أتعبَّد الليلة لربي))، قلت: والله إني لأحب قُربك، وأحب ما سرَّك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلالٌ يؤذِنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟! لقد نزلت عليَّ الليلة آيةٌ، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها؛ ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]. إن اللهَ تعالى إذ خلق الإنسان جعل له في كل خَطْرة من خَطَرات النفس وخَلجة من خَلَجاتها نافذةً إلى معرفته سبحانه، وفي كل لمحة عين أو رنة صوت أو لمسة أو إحساس أو شعور أو نشوة فرح أو لسعة حزن طريقًا إلى الإيمان، إنه عز وجل إذ خلَقه ودلَّه على الإيمان، لم يخلقه عبثًا، ولم يُهبطه إلى الأرض لعبًا، ولم يكلفه بالعبادة فيها عنتًا ورهقًا، بل زوده ابتداءً بكل مراشده، وأدوات معرفته ومعرفة ما ينبغي عمله، ولكن الإنسان يجهل، يجهل بما يكتسب، ويجهل بما يغتر، ويجهل بما ينسى، طغَتْ أنانيته على ما لديه مِن أدوات الفهم والعلم فعتَّمت عليها، وتنكب جادة الصواب فحاد عن الطريق، واتخذ لنفسه بتراكُمِ ما اكتسب من الآثام بدائل عن الإيمان، وأولياء من الرهبان والأوثان؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقلت، فإن عاد زِيدَ فيها، فإن عاد زِيدَ فيها حتى تعلو فيه، فهو الرانُ الذي ذكر الله: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14])). إن الإيمان بالله عز وجل فينا؛ في فِطرتنا، في أعماقنا، في قلوبنا وأسماعنا وأبصارنا وجلودنا وأحاسيسنا، كما هو في الكون من حولنا؛ جليلِه ودقيقه، قريبه وبعيده، محسوسه ومنظوره ومسموعه، ولكننا قوم جاهلون، أو عُمْيٌ أو صُم أو مطموسٌ علينا. وإن الإنسان إذ أُهبط إلى الأرض، كان أولَ أمره فيها عارفًا بربه، مؤمنًا تائبًا عابدًا خاشعًا، ولكن الغفلة والنسيان وتعاقب الأيام وتقادم الأعوام وتراكم الآثام عتَّم على إيمانه، وأنساه ما كان عليه من التوحيد، فاستبدل الأربابَ المزيفة بربِّه الحق، والآلهةَ المتعددة بربه الواحد الخلَّاق، ولكنَّ رحمة الله ولُطفَه ووعده إياه إذ خاطبه عند إهباطه إلى الأرض بقوله: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38] - كل ذلك دفع بهذا المخلوق العجيب المهاجر إلى الأرض، الغريب بين سكانها وقطانها، إلى تيهِه الجديد عن ربه، ونسيانه كلمتَه وتوحيده، فلم يكن له مفتاحًا لرحمة الإيمان المهداة والهداية المجتباة إلا ما رُكِّب في نفسه يوم خُلق مِن أدوات للفهم والعلم والإدراك والتدبُّر والتعقل. وكما هي طبيعة القرآن في التبليغ والتعبيد إذا أمَر أو نهى أو حرَّم أو أباح أو أوجب أن يبين للناس منهج القيام بذلك، وخطواتِ العمل به، وألا يدعَ جانبًا من كيانهم المادي والمعنوي إلا علَّمهم كيف يتعاملون معه ويستفيدون منه ويتَّقون فساده، وهو ما عُرف بتنزيل أحكام الله تعالى في واقع الأمة؛ أفرادًا ومجموعات، وشعوبًا وأممًا، كما هو الشأن في آيات قرآنية كثيرة بيَّنتها آيات أخرى غيرها، أو أحكام قرآنية فصَّلتها سنَّة قولية أو عملية أو إقرارية من صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، لا سيما أن طبيعةَ رسالة الإسلام قد وُضعت على مقاس الإنسان؛ بدنًا ورُوحًا ونفسًا وعقلًا ومجتمعًا وحياة دنيوية تُفضي إلى الآخرة حسابًا وجزاءً، وتجزم بأن الله تعالى ما أمر بشيء فوق طاقة البشر، وما كلَّف شيئًا إلا سن له طريقةً للقيام به. ولئن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين للناس منهج الإيمان إذ نزل قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾ [البقرة: 137]، وقال لهم: ((الإيمان أن تؤمنَ بالله، وملائكته، وكُتبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمنَ بالقدَر خيرِه وشرِّه))، وبين طريقة الصلاة والزكاة إذ نزل قوله: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43]، فقال: ((ارجعوا إلى أهليكم فكونوا فيهم وعلِّموهم، ومُرُوهم، وصلُّوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمَّكم أكبرُكم))، كما بينت آية قرآنية أخرى مصارفَ الزكاة بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60]، فإن مِن حق القارئ المتثبِّت للقرآن، الحريص على امتثال أوامره تعالى إذ يتلو قوله تعالى: ﴿ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [هود: 51]، وقوله عز وجل: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 242]، في أكثرَ من عشرين آية أخرى تحض على التعقل، وتذم من عطَّل طاقة العقل التي وهبها الحق تعالى للإنسان، وحوالي ست عشرة آية أخرى تحض على التفكير والتفكُّر، منها قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ [الروم: 8] - مِن حق هذا القارئ إذ أُمر بالتفكر والتعقل أن يسأل عن طريقة القيام بهذا الأمر الرباني؛ لتحقيق الغاية منه؛ استجماعًا للتصور الإيماني الواضح السليم، واستصلاحًا للفطرة إن فسَدت أو رانت عليها عتمات الغفلة، وجمود التقليد، والركون للأوهام والخرافة. فهل وضَع الحق سبحانه للعقل البشري منهجًا للتفكر الإيجابي الرشيد، والتدبر الواعي السديد، وطريقًا إلى الهداية إن ضلَّ أو غوى؟! وما هو منهج التفكر والتدبر وترقية الأدوات العقلية، وقد أمر به القرآن الكريم وتوعد بالويل مَن أعرض عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لقد نزلت عليَّ الليلة آيةٌ، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها ..))؟ وما هو الهُدى الرباني المقصود الواجب اتباعه في هذا الأمر إذ قال تعالى لآدم عليه السلام وهو في طريقه إلى الأرض: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38]؟ إن التفكُّر والتدبر والتعقل عملية شعورية تجري داخل نفس المرء خفيةً عن العين المجردة، وعن غيرها من الجوارح الأخرى، وإن ترقية هذه العملية الشعورية بما ينمِّي خاصية الإدراكين الحسي والمعرفي والقدرة على اتخاذ المواقف الحاسمة تبعًا لهما، مِن أهم ما يحتاجه طالب الحق والمنافح عنه؛ كي يفقهَ ما يقال له من ربه، وما يراه من الكون المنظور، فلا يتعرَّض للتوبيخ بالاستفهام عن علة جهله وقلة فهمه لِما يراه أو يخبر به في قوله تعالى: ﴿ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 78]. مِن أجل ذلك كانت ترقية هذه العملية الشعورية غير المنظورة تحتاج إلى قدوة منظورة ونموذج حيٍّ يأخذ بيد المؤمن إليها، فيقرِّب له بعيدها، وينير له طريقها، كما يفعل معلم الصبيان إذ يقرب لهم المعاني المجردة البعيدة عن أذهانهم بأدوات إيضاح مادية أو تشخيصية يقدمها لهم؛ لذلك اختار اللهُ تعالى للتعليم والترشيد والتذكير في هذه العمليات الفكرية إنسانًا سويًّا يقوم بها، ويكون لهم فيها قدوة وأسوة، وكان هذا الإنسان هو الشابَّ اليافعَ الطموح إبراهيم عليه السلام، في قومه من الكلدانيين عبدةِ النجوم والأوثان في العراق، وقد خنعوا لسطوة حاكم جبَّار مستبد نصَّب نفسه إلهًا عليهم. ولئن كان القرآن الكريم لم يذكر شيئًا عن نشأة إبراهيم فإنه قد بيَّن لنا من خصاله وتكوينه النفسي والعقلي ما يقرِّبنا من معرفة شخصيته، ونيرِ عقله، وعلو همته، ومَضاء عزيمته، فهو - بشهادة الوحي الكريم - أمَّةٌ وحدَه، يُغْني بفضل الله عليه عن أمة كاملة: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [النحل: 120]، وهو العاقل المتأوِّه المراجع لما فاته؛ تداركًا واستصلاحًا، والمُنيب إلى الحق الراجع إليه؛ اختيارًا ذاتيًّا وفلاحًا: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [هود: 75]، وهو الذي اكتمل رشدُه بأمر ربه واصطفائِه وعلمه: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 51]. أما عن تكوينه الإراديِّ ومَضاء عزيمته فهو الفتى المِقدام الناهض، ومِن بواكير فتوَّته أن شنَّ في مقتبل عمره حملةَ تنديد بغباء قومه إذ يعبدون أحجارًا منحوتة لا تنفعُ ولا تضر، ثم شفع حملته بتحطيم تلك الأوثان وجعلها جُذاذًا، وإذ تساءل عبدتُها عمن فعل بها ذلك قيل لهم: ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾ [الأنبياء: 60]. لقد أراد الله تعالى لهذا الشابِّ الناهض المِقدام أن يهتدي إلى الإيمان، وأن تكون أدواته في ذلك ما ركَّب فيه مِن قدرات عقلية ونفسية وإرادية؛ تدبرًا وتفكرًا وملاحظة في الكون، من غير أن يأتيه ملَك مقرَّب أو نبي أو رسول؛ ليكون في البحث الذاتي عن الله والوصول إليه قدوةً للناس، وحافزًا لهم إلى التحرر من عبودية الهوى والخمول والركون إلى ما تفرضه الخرافة والاستبداد من عقائدَ وأديان. بذلك كان الطريق إلى الإيمان مجسَّدًا تجسيدًا حيًّا في هذا الشاب اليقِظ بين قومه الغافلين، وقد أنكر عليهم جهالتَهم، ورفض غباءهم، وازدرى ما يعبدون، ولجأ إلى ما لديه من أدوات للفهم والمعرفة فاهتدى. لم تكن من أدواته إلا الجوارح، يقودها التأمل والتدبر، والتعقل والفهم والتفكر، ولم يكن معها إلا الكون المنظور حوله في الآفاق، ولم يختَرْ مِن هذا الكون الفسيح الهائل دقائقَه وغامضه ومعتمه، بل اختار منه بالليل الأشد وضوحًا، والأقرب رؤية؛ كواكبه وقمره، وبالنهار أقوى ما رأى سطوعًا من القمر وأكبر حجمًا وأشد حرارة، وهو الشمس، اختار ذلك موضوعًا للتدبر والتفكر والتعقل والسعي الرشيد نحو الإيمان. وكما هي سنَّة الأنبياء والرسل عليهم السلام في أن يبدؤوا بأهلهم وعشيرتهم؛ كما قال الحق سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، فقد عمَد الفتى إبراهيم إلى مقاومة عقيدةِ الشرك في قومه، وكان أبوه ينحَت الأوثان ويبيعها لهم ويعبدها معهم، فخاطبه بقوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 74]، استفهام إنكاري من إبراهيم للضلال البيِّن الواضح في تصرفات أبيه وقومه إذ يعبدون النجوم والكواكب، ويتخذون لها رموزًا ووسائطَ من التماثيل الخشبية والحجرية، وموقف رشيد منه يشير إلى أبعادٍ مهمة كثيرة في تكوين الشخصية الإبراهيمية التي اصطفاها الحقُّ تعالى وجعلها للناس أسوةً وقدوة ومنارَ طريق بقوله: ﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [البقرة: 130]، وقوله: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: 4]. أول هذه الأبعاد انتباهُه إلى جدية التصرفات وعبثيَّتها، وتمييز صحيحها من سقيمها. وثانيها الإصرار على السعي لمعرفة الحق، مهما خفِي، أو عتَّمت عليه الجاهلية. وثالثها القدرة على الاستفادة العملية من كل معرفة مستحدَثة أو مكتشفة، واتخاذها مرجعًا للتصرفات والعلاقات، مما يكشف مستوًى عاليًا من الرُّشد العقلي الذي تُخصبه المعارف، وتُنضجه التجارِب. ورابعها الميل الفطري لإشراك الغير في أي منفعة، ومحاولة إنقاذ المجتمع من أي مضرَّة. وخامسها القدرة النفسية والإرادية على الجهر بالحق والدفاع عنه حين الاهتداء إليه، وعلى اتخاذ الموقف الحاسم من أي ضلال أو فساد أو منكر يراه أو يواجهه. والخطاب بقوله تعالى في هذه الآية من سورة الأنعام: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ... ﴾ [الأنعام: 74] الآية.. استمرارٌ لمخاطبة الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة منها بدئ بقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ﴾ [الأنعام: 74]؛ أي: واذكر يا محمدُ موقفَ إبراهيم من أبيه وقومه وقد أنكر عليهم الشرك وعبادة الأوثان وقال لأبيه: ﴿ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ﴾ [الأنعام: 74] كيف تنحِتُ أحجارًا تبيعها للناس وتتخذها معهم آلهة تعبُدُها معهم؟! ﴿ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 74] إن هذا منك ومنهم هو عينُ الضلال البيِّن، والسفاهة السخيفة. موقف رافضٌ لشرك الأبِ والقوم جميعًا، وحُكمٌ صارم على عبادة غير الله بالضلال البين الذي لا شبهة فيه، وتعالٍ عن العلاقات العائلية والقومية إن تعارضت مع العقيدة، هو خلاصة ما وصل إليه الإيمان لدى إبراهيم عليه السلام، قدَّمه لنا الوحي الكريم ثمرةً ونتيجة لطريقته في البحث عن الحق، فكيف سار في طريق الرُّشد هذا ووصل إلى هذه النتيجة؟ وما هي معالم هذا الطريق الذي سار فيه فعرَف ربه ونهض يدعو إلى توحيده وعبادته؟ لقد نشأ إبراهيمُ في قوم يعبدون النجوم والأوثان، ويحكُمُهم ملك يدَّعي الألوهية ويقول لهم: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، وشاء الله أن يكلِّفَه أبوه ببيع التماثيل المعبودة في الأسواق، فيسعى بها ويتأملها، ويتساءل عن جدواها وعن عقول مَن ينحتها ويبتاعها ويقدسها ويعبدها ويتوجه إليها بالدعاء، فلا يجد في نفسه إلا الازدراءَ للعَبَدة والمعبودات، ثم يتأمل ما يبدو لناظريه من ملكوت السماء والأرض وما يراه في نفسه وبدنه والناس حوله، فيعجَب لبديع صُنع ذلك ويتساءل عمن أتقنه ونشَره! هذه المشاعر المتأججة المشتاقة إلى المعرفة إن صادفت نفسًا فتيًّة طموحة وقلبًا حيًّا خصيب التربة وعقلًا نيِّرًا يانع الذكاء - لا بد أن تقحم صاحبها في الحيرة الإيجابية الفعالة، حيرة الأرض المعطاء العطشى إلى الوابل الصيب الطيب، حينئذ تُشرق في القلب أنوار الهداية، وتقف الرُّوح بأبواب اليقين تطرقها وتلتمس نصيبها من رحمة ربها وقد خلقها مشرئبَّة إلى الحق باحثة عنه، نادمة على ما أضاعت من حق نفسها وما بدَّدت من سالف أيامها في غفلةٍ عن حقيقة الوجود، وسهوٍ عن المبتدأ والمنتهى وعاقبة الورود. حينئذ تُورِق الرُّوح بأزهار الحق، فتتحرر من عِقال الانتماء للوالد والأهل والعشيرة والقوم، ونير الانتماء إليهم رَعاعًا ومتألِّهين، وتنطلق إلى فساحة المحبة، محبة أهل الحق للحق، تبحث عن أرواح تعرِفُها وتأتلف معها، وأهلٍ كرامٍ تأنَس بهم، ورفقة طريق منعمة تسعد بها، وسفينة هنيئة تشقُّ فيها وبها عُبَابَ المحيط ولُجَجه. إن الفتى إبراهيمَ قد رأى الضلال في قومه فأنكره، وأقبل يطرُقُ ليلًا ونهارًا أبواب الحق طرقًا، ويسعى بعقله وبصيرته بحثًا عن ربه سعيًا، رأى قومه يعبدون النجوم والكواكب، فهل يسائلها عن الحق وطريقه؟ وهل تستطيع النجوم أن تلبي نداء الفطرة في قلبه وهو يرفض ما عليه قومه؟ وهل تفصح أو تبين إن كانت حقًّا تستحق العبادة أو بيدها مقاليدُ الكائنات؟ بدأ مسيرته لتلبية نداء الفطرة المتعاظم في عقله وقلبه باستعراض الكواكب الساطعة ليلًا، وكان لكلِّ طائفة مِن قومه كوكبٌ خاص بها تجسِّده في وثن حجري أو خشبي تعبُدُه، وتطلَّع إلى السماء بعينِ البصيرة النافذة والعقل النيِّر والتوجه الصادق والتفكير الحر فإذا بها على غير ما يألفها أو ألِفها الناس، لقد انتبه إلى فساحة ملكوت الله العظيم في السماء والأرض، وقارَنه بعجز المتألهين من البشر وضعفهم ودعاواهم الزائفة العريضة، وانطماس أعينهم عن رؤية الحق؛ فانقدحت في قلبه شرارةُ المعرفة، يهديه الله بها إليه: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75]؛ أي: وكما أراه الله تعالى ضلال قومه فأنكره، أخذ بيده إلى طريق الحق ليريَه بحاسة البصر وعين البصيرة ملكوته في السموات والأرض، فيكون ذلك دليلَه ومرشده، ويتدرج به من المحسوس إلى المعقول، ومن الشك إلى اليقين، ومن رؤية المخلوق إلى معرفة الخالق والإيمان به، لقد صدَق إبراهيمُ اللهَ السعيَ إلى الحق؛ فتقبَّل الله سعيه، وسدَّد خطاه إليه: ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا ﴾ [الأنعام: 76]، فلما أطبَق الليل وأظلم الكون إلا مِن نجوم تلمع، وكواكب تسطع - حدَّد أكبرها وأشدها نورًا، وتساءل عن مزاعم قومه واحتمال كونه ربًّا خالقًا له مواصفات الألوهية والربوبية، ثم ﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ [الأنعام: 76]، هل هذا ربي كما يزعم قومي؟ لكن الجواب جاءه عقِب أفول هذا الكوكب، وافتقاده صفةَ البقاء التي هي من صفات الربوبية: ﴿ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾ [الأنعام: 76]؛ أي: فلما غاب الكوكب لم يعُدْ أهلا للربوبية ولا للمحبة الحقَّة؛ لأن المحبة الاعتقادية لا تُبذَل فيما رسخ بفطرة إبراهيم إلا لمن يستحقها، وهو الخالق عزَّ وجل. وإذ لم تثبُتْ للكوكب صفة من صفات الربوبية حضورًا دائمًا ورعاية مستمرة للكون، أعرض إبراهيم عنه، والتفت إلى أكبرِ ما يرى في السماء ليلًا، إلى القمر؛ علَّه يتوفر على صفات الرب المخزَّنة في فطرته واضحة بينة، ﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ [الأنعام: 77]، رآه مكتملًا منيرًا، فتساءل أيضًا عن مزاعم قومه في عبادتهم له، وقال: هل هذا ربي كما يزعم قومي؟ ﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾ [الأنعام: 77]، فلما غاب افتقَد كذلك صفةً من صفات الربوبية، وما ينبغي أن تكون عليه علاقة الرب بالمربوب والخالق بالمخلوق. وإذ صدَق ربَّه البحثَ عن الحق والسعي إليه، واستشعر العجز عن اقتحام الغيب، فوَّض أمره إلى الخالق الحقِّ الذي يبحث عنه ويجد صدًى لوجوده وصفاته في فطرته، ﴿ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾ [الأنعام: 77]، وذلك منه عينُ الإيمان؛ إذ خرَج عن حوله وقوته، وأخذ يتجه نحو الجادة ويقترب منها، بعد أن بذل جهدَه، وآمَن بأن الحق لا يَهدي إليه إلا الحقُّ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، وقال - فيما رواه عنه الرسولُ صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تقرَّب إليَّ العبد شبرًا تقربتُ إليه ذراعًا، وإذا تقرب إليَّ ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولة)). استعرَض إبراهيم في ليله ما يرى مِن ملكوت السماء فلم يجد فيه إلا المخلوقات؛ قمرًا وكواكبَ ونجومًا، ثم بزغت الشمس صباحًا، فرآها وقد غيبت ما رآه بالليل، ﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ﴾ [الأنعام: 78]، قال: هذا الكوكب أكبرُ ما رأيت في السماء ليلًا ونهارًا، فهل هذا ربي كما يزعم قومي؟ إلا أن هذه الشمس على كِبَرِها وشدة سطوعها وحرارتها تسير في السماء من شروقها صباحًا إلى أفولها في المساء، فمَن يُسيِّرها منذ رأتها الأرض والسماء وأهل الأرض والسماء؟! لا بد أن يكون الذي يُسيِّرها هو خالقها وخالق هذا الملكوت؛ أرضًا وسماءً، و نجومًا وكواكبَ، وقمرًا وشمسًا، وغيرها من الكائنات، هنالك انقدح في قلبه قبسٌ من الهداية، ومِشعل من النبوة، ومشكاة تُنير طريقه إلى ربه، مشكاة لا يملِكها إلا خالق الملكوت في الأرض والسماء، والليل والنهار، هنالك عرَف إبراهيم ربَّه الذي يجد لصفاته نورًا في قلبه، وصدًى في عقله؛ فبادر بالبراءة من الشرك ومفاصلة أهله: ﴿ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 78]، تبرأ من الشرك وقومه المشركين؛ كي يُخلِص إلى توحيد ربِّه الحق؛ محبةً وولاءً؛ لأن القلبَ الفطري السليم في مجال العقيدة لا يتسعُ للتعدد، ولا بد أن يخلى أولًا من الشكوك والأوهام، والهواجس والظنون؛ كي يستقرَّ فيه الإيمان، ويملأَه طمأنينةً وصدقَ توجُّه إلى الله عز وجل، كما فعل إبراهيم عليه السلام إذ تأمل في الملكوت ليلًا ونهارًا، وقطع الشك باليقين في أمرِ معرفة الخالق الذي خلَق ويخلُق، والحكيم الذي سيَّر ويسيِّر، وحفِظ ويحفَظ، ودبَّر ويدبِّر. لقد استعرَض إبراهيمُ حركة بزوغ الكواكب؛ كبيرِها وصغيرها، خافتِها وساطعها، وحركة أفولها واختفائها، وتبيَّن أنها مفتقِدة لصفات الربوبية، فكيف بالأصنام التي اتخذها قومُه رمزًا لها وهي مجرد حجارة وأخشاب؟! فثار في قومه مبكتًا لهم وعاتبًا عليهم غباءَهم وما ألغَوا من عقولهم، ونادى فيهم: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79]، إني آمنتُ بالله الذي خلق السموات والأرض، وتوجهت إليه مخلصًا بالمحبة والعبادة والدعاء والتوكل والرجاء، متحنفًا مائلًا ومعرضًا عن كل أديانكم الوثنية، ولستُ من المشركين بالله غيرَه، وعبَّر عن ذلك كله بتوجيه وَجْهِه إلى الله تعالى؛ لأن الوجهَ مظهر الخشوع والطاعة والامتثال البدني والرُّوحي والعقلي، وبه يكون السجودُ. إنه الفرَح بالحق وقد أشرق في عقله وقلبه، وتطابق ما اهتدى إليه مع ما رسَخ في فطرته، فلم يُطِقْ كتمانَ ما آتاه ربُّه من العلم، وواجه قومه في تحدٍّ واضح صارم بحقيقة إيمانه وتوجهه لربه، وحقيقة حُكمه على الشرك، وعزمه على مفاصلة المشركين. وإنه الموقف الرباني لكل عبدٍ أوابٍ إذ يكتشف الحق فينحازُ له ويحرص على نشره وإشاعته وعدم الاستئثار به، غيرَ مبالٍ بجحافل الباطل ومكارهِ المُبطِلين. لقد حرَّر إبراهيم - بتوفيق من الله - فطرتَه وعقله من أوهام قومه وخيالاتهم المريضة، فهل يقبَل قومه أن يتحرروا منها؟ وإذ أخذ يحاول أن يأخذ بأيديهم إلى الحق الذي اهتدى إليه، تحشَّدوا للدفاع عن شِركهم الذي لديهم، ودَحْض ما أتاهم به من الحق وإبطاله، وكما تبدأ عادة حروب أهل الباطل على أهل الحق، يحاولون أولًا تشكيكهم فيما جاؤوا به، واستدراجهم إلى النكوص عن دعوتهم والتخلي عن عقيدتهم، فإن فشِلوا في ذلك لجؤوا إلى التخويفِ والتهديد والوعيد، ثم محاولة القتل أو التهجير والتشريد، أسلوب واحد واجه به أهلُ الباطل دعاةَ الحق؛ أنبياءَ ومرسَلين ومصلِحين عبر التاريخ في كل عصر وفي كل أمة، ولن يَشِذَّ عن ذلك أبو الأنبياء إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام، فما أن واجههم بإعلان التوحيد والبراءة من الشرك، حتى هرولوا إليه يحاجُّونه في الله مشكِّكين ومثبِّطين ومهدِّدين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ﴾ [الأنعام: 80]، ولفظ: "حَاجَّه" من المحاجة، وهي: المجادلة والمناظرة والمغالبة في إقامة الحجة، وتطلق الحجة على كل ما يُدْلي به الخَصم ضد خَصمه من أدلة أو قرائن، والمعنى أن قومَ إبراهيم عليه السلام جادلوه وخاصموه في أمر التوحيد، وجاؤوا بحُجَج واهية على صواب معتقداتهم الشِّركية، مشكِّكين في وجود الله، وتفرُّده بالخَلْق والأمر والتسيير والتدبير، ومهدِّدين بانتقام أصنامهم منه، فأجابهم: ﴿ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ﴾ [الأنعام: 80]، أتغالبونني بحُجَجكم الواهية في أمرٍ خطير، هو إيماني بالله تعالى وقد هداني إلى صراطِه المستقيم؟ استفهام إنكاري، وتوبيخٌ لإنكارهم الحقَّ البيِّن الذي لا يقبَل جدالًا ولا مِراءً ولا محاججة، وتَيْئِيس لهم من احتمال عودتِه عن الإيمان، أو خوفِه مِن أذى الأوثان. لقد كان المشركون من قبلُ لا يحفِلون بما يذكر إبراهيمُ به آلهتم، ولا بسخريَّتِه منها وبمن يشتريها ويعبدها، ولا يتصورون أن يتطورَ أمره إلى إعلان براءته منها وممن يتوجه إليها بالعبادة، أو أن يأتيهم بدِين جديد يتوجه بهم إلى إلهٍ متفرِّد بالخَلْق والأمر، لكنه كان قد تجاوز درجة الإيمان العقلي واسترجاع الفطرة، إلى مرحلة متقدمة جدًّا في علاقته بربه، مرحلة النبوة وتحمُّل الرسالة، مرحلة أراه الله تعالى فيها ملكوت السموات والأرض؛ ليكونَ من الموقنين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75]، وأخرى كلَّمه ربُّه فيها ودعاه إلى الإسلام فسارع بالامتثال والطاعة: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 131]، ومرحلة خاطب فيها ربَّه طلبًا لطمأنينة القلب، فاستجاب له: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]. لقد قطَع إبراهيم عليه السلام أشواطًا بعيدة في الطريق إلى ربه، فأنَّى للمشركين أن يردُّوه عن الإيمان، أو يثبِّطوا عزيمته عن الدعوة إلى التوحيد، أو يكفُّوه عن التنديد بالشرك؟ وإذ فشِلت مساعيهم اللينةُ، وشرعوا في تخويفه بما زينَتْه لهم أوهامُهم وخرافاتهم من احتمال غضب الأصنام وانتقامها منه - ردَّ عليهم بقوله: ﴿ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ﴾ [الأنعام: 80]، لا أخاف أصنامَكم ولا ما تتوهَّمونه فيها مِن قدرة على النفع والضُّر، وهي مجردُ حجارة منحوتة وأخشاب مخروطة، ﴿ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ﴾ [الأنعام: 80]، إلا أن يصيبَني شيء من المكروه؛ مرضًا أو بلاءً أو موتًا، فذلك بإرادةِ الله عز وجل وعِلمه وحكمته وحده، يُصيب به من يشاء من عباده، وليس مِن فعل أوثانكم، ﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الأنعام: 80]، وسع علمُ ربي ما في السموات والأرض؛ غيبَهما وشهودهما، ﴿ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 80]: أفلا تتذكرون فطرتكم التي فُطرتم عليها وما بيَّنَتْه لكم من دلائل الحق والتوحيد فتؤمنوا وترجعوا إلى صراط مستقيم، ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ﴾ [الأنعام: 81]، استفهام إنكاري آخر مِن إبراهيم لقومه، يوبِّخهم به إذ ظنوا احتمال خوفه مما لا يُخيف، كيف أخاف مخلوقاتٍ عاجزة يُفعَل بها ولا تفعل؟! ﴿ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ﴾ [الأنعام: 81]، ولا تخافون مِن عاقبة ما ترتكبونه في حق الله القوي القاهر، وقد جعلتم له في ملكوته أندادًا وشركاءَ، وليس لكم فيما انتحلتموه حجةٌ منه تعالى أو تفويض، ﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 81] فمَن مِن الفريقين أولى بأن يُخافَ إن كان لكم علم راسخ بالصواب والخطأ وبعاقبة الإيمان وعواقب الكفر؛ مَن يؤمن بالله تعالى وقد وحَّده وعبده، أم مَن عاداه وأشرك به وتولى أحجارًا جامدة وكواكبَ عاجزة؟! إنه التهديد نفسُه الذي يوجهه دائمًا عبيدُ طواغيت الأرض؛ بشرًا وحجَرًا وشجرًا وطواطمَ وأوهامًا، لدعاة الحق؛ أنبياءَ ورسلًا ومصلِحين، فلا يلقَون منهم إلا الثباتَ ورباطة الجأش، واستعلاء الإيمان، والإعراض عن الجاهلين، لقد كان إبراهيمُ عليه السلام في موقفه هذا شبيهًا بموقف نوحٍ مِن قومه إذ قال لهم: ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]، كما كان قدوةً لمن أتى بعده مِن الأنبياء والرسل والصالحين، مثل هود عليه السلام الذي تحدى قومه بإيمانه: ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 53 - 56]، ومثل محمَّد صلى الله عليه وسلم إذ غضبت منه قريشٌ، وعادَوْه وحقدوا عليه، ثم ذهبوا إلى عمه فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك مِن ابن أخيك فلم تنهَه عنا، وأقسموا بأنهم لن يصبروا على أفعاله حتى يكفَّه عنهم أو ينازلوه وإياه في ذلك حتى يهلِكَ أحد الفريقين، ولما بلَّغه عمُّه تهديد المشركين رد قائلًا: ((والله لو وضَعوا الشمس في يميني، والقمر في شِمالي، على أن أترك هذا الدِّينَ ما تركتُه حتى يقضي اللهُ أمره)). وإنه الموقفُ نفسه الذي سار عليه علماءُ الأمة الأبرار، وهم كثير، مِن أمثال سلطان العلماء العز بن عبدالسلام، إذ جاءه أحدُ سلاطين المماليك غاضبًا يهُمُّ بقتلِه، فقال له ولده: إنه السلطانُ، وإني أخاف يا أبي أن يقتلَك، فأجابه العز المقدسي: أبوك يا ولدي أقلُّ مِن أن يقتل في سبيل الله، وعندما سأله بعد انصراف السلطان: أما خِفتَه؟ أجاب: يا بني، لقد استحضرتُ هيبة الله تعالى؛ فصار السلطان قدامي كالقطِّ. وإذ أفحم إبراهيمُ عليه السلام خصومه المشركين وسألهم عن الفريق الأَوْلى بالأمن، فريق المؤمنين أم فريق المشركين، مَن يخافون الله تعالى أم من يخافون النجوم والأوثان؟! عقَّب الحق تعالى على ذلك - تأييدًا لحجته، وتزكيةً لموقفه، وحكمًا قاطعًا بين الفريقين - بقوله: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، إن الأَوْلى بالأمنِ هم الذين آمنوا بالله ولم يخلِطوا إيمانهم بأي صِنف من أصناف الظلم، هؤلاء هم الآمنون من العذاب، المهتدون إلى الحق في الدنيا وإلى الجنة في الآخرة، وقد فسَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الظلمَ في هذه الآية الكريمة بالشِّرك، فيما رواه البخاريُّ ومسلم عن ابن مسعود قال: لما نزلت: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [الأنعام: 82]، شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله، أيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس ذاك، إنما هو الشرك؛ ألم تسمعوا قولَ لقمان لابنه: ﴿ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]))، وفي رواية: ((ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمانُ لابنه)). لقد كانت هذه الآيةُ الكريمة مع ما سبقها من الدلائل التي ساقها إبراهيم لقومه إلهامًا من الله تعالى، وحجَّة قاطعة في إثبات وحدانية الله وتفرُّده بالخَلْق والأمر واستحقاق العبادة؛ ولذلك عقَّب عز وجل بقوله: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾ [الأنعام: 83]؛ أي: وتلك الدلائل والحُجَج المفحِمة التي واجه بها إبراهيم قومه، كانت بإلهام مِن الله عز وجل ووحيِه وفضله؛ ﴿ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 70]؛ لذلك عقَّب سبحانه مبينًا فضله على جميع رُسله وأنبيائه والصالحين مِن عباده بقوله: ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ﴾ [الأنعام: 83]، يرفَع الله تعالى بفضلِه وإحسانه وعدله واصطفائه درجةَ مَن يشاء مِن عباده في الدنيا والآخرة؛ كما قال في الآية الحادية عشرة من سورة المجادلة: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11]، ولقد رفَع عز وجل إبراهيم عليه السلام درجاتٍ عُلْيا، فكلَّمه واتخذه خليلًا، وجعل في ذريته النبوةَ والكتاب ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]. لذلك عقَّب الحق عز وجل موضحًا جميلَ صُنعه واصطفائه وتقديره وتدبيره بقوله عز وجل: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 83]، حكيمٌ في جميع ما يفعَل؛ خَلْقًا وتقديرًا وتعليمًا، وهدايةً واصطفاءً، ورفعًا وخَفْضًا، عليمٌ بجميع عباده؛ حالِهم ومآلهم، ظاهرهم وباطنهم، ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. لقد كان إبراهيمُ عليه السلام في جميع أحواله عقلًا نيِّرًا، وإسلامًا قيِّمًا يسير على الأرض، وكتابًا مِن الله حيًّا يُنِير الطريق، وقدوة حسنة وأسوة طيبة للأنبياء والرسل مِن بعده، وكان محمدٌ صلى الله عليه وسلم وارثَ ملةِ إبراهيم عليه السلام، يَسير في قومه قرآنًا غضًّا واعيًا، يُحْيي النفوس بالإيمان، ويُطهِّرها بالخَلْق الكريم، ويرقِّيها بالفكر الثاقب، وقد رُوي عنه أنه قال حثًّا على التعقُّل والتدبُّر ونبذِ التقليد: ((لا تكونوا إمعةً، تقولون: إن أحسن الناس أحسَنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا ألا تظلِموا)، وهو بذلك خيرُ وارث لملة إبراهيم عليه السلام، وخير قدوة للناس فيها إلى يوم القيامة، فهل يقتدي الشباب المسلم المعاصر بإبراهيم عليه السلام وقد حرَّر عقله، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقد قاوم الكفر والشرك وغباء العقول وحطم الأوثان، فيحرِّروا أنفسَهم من الخوف وعقولهم من خرافات العَلْمانيين والمراكسة وتجار السياسة وتحكُّم ظلمة العصر وأوثانه وفتَّانيه؟! إن القدراتِ العقلية عاملٌ أساسي في بناء شخصية المرء من حيث أداؤُه المعرفي؛ فهمًا وملاحظة ومقارنة واستنباطًا واستقراءً وسرعةَ بديهةٍ وقدرةً على التمييز والاختيار والإبداع والأداء، وفهمًا لمآلات الأقوال والأعمال والأحوال، وحرصًا على الفهم الدقيق الصائب قبل الإقدام على أي عمل أو تنفيذه، وشجاعةً على اتخاذ المبادرات المبتكرة والقرارات الصائبة، وعلى تحمُّل المسؤولية والتعامل الإيجابي الواعي المتفهم لتغيُّر الظروف والأحوال. وإن تجميدَ هذه القدرات وتعطيلها، والانضباعَ لما يُملَى علينا؛ عجزًا عن التفكير أو ثقة في الغير، والانصياع لبادي الرأي؛ استسهالًا للأمور أو كسلًا أو ثقة في الآخرين مهما بلغت درجتُهم العلمية أو الفقهية - ليس من الدِّين في شيء، ولكنه جحود لنعمة أنعمها الله علينا، هي نعمة العقل، وكفرانٌ لنعمة أخرى آثرنا الله تعالى بها، هي نعمة الإيمان. وإن ترقيةَ كل هذه القدرات العقلية وشحذَها وتطويرها والاستفادة منها كانت مما ميز الشخصية الإبراهيمة، وبوَّأها الصدارة بين الأنبياء والرسل عليهم السلام، واصطفاها لدِينه، وجعل مِلَّتها النموذج الإسلامي الفَذَّ، فقال عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [البقرة: 130]، وقال: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 95]، وقال: ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الحج: 78]. lki[ hgrvNk td jvad] hgur,g ,Yughx hgill ,jvrdm hgl,hrt | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
For best browsing ever, use Firefox.
Supported By: ISeveNiT Co.™ Company For Web Services
بدعم من شركة .:: اي سفن ::. لخدمات الويب المتكاملة
جميع الحقوق محفوظة © 2015 - 2018