الإهداءات | |
ملتقى علوم القراءات والتجويد يختص بتبيان احكام التجويد ... وشروحات لعلوم القراءات الصحيحة والمتواترة ... ودروس القرآن الكريم . |
« آخـــر الــمــواضــيــع » |
كاتب الموضوع | أبو عادل | مشاركات | 5 | المشاهدات | 12381 | | | | انشر الموضوع |
| أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
22 / 03 / 2010, 42 : 08 PM | المشاركة رقم: 1 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| المنتدى : ملتقى علوم القراءات والتجويد لمحة بلاغية في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً{32} كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً{33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً{34} وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً{35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً{36} قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً{37} لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً{38} وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً{39} فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً{40} أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً{41} وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً{42} وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً{43} 1- وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً.... لا يكاد القرآن الكريم يوقع على "المثل" والأمثال إلا فعلا مشتقا من مادة" ضرب ". ابتداء من آية البقرة: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا..}البقرة26 وانتهاء بآية التحريم {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ }التحريم11 ولم يتأخر "الضرب" إلا في موضعين....حيث جاء مكانه" الصرف": - الموضع الاول في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً }الإسراء89 -والموضع الثاني في سورة الكهف: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }الكهف54 مع ملاحظة أن فعل" الضرب" جاء أيضا مرتين في تركيبين متماثلين: الموضع الأول في سورة الروم: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ .}الروم58 والثاني في سورة الزمر: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }الزمر27 ما السر في هذا التلازم بين مادة فعل" الضرب" ومادة مفعول "المثل"؟ لو تأملنا الدلالات المعجمية الذاتية والإيحائية لفعل ضرب لوجدنا هذا الفعل هو الأنسب لكي يوقع على المثل .فثمة تشاكل بديع بين معاني الضرب ووظيفة المثل...وسنقتصر هنا على بيان ثلاث دلالات: أ- قال ابن عاشور في تحريره:"أصل الضّرب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به ، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل ..." فالضرب والقرع يقترنان بالشدة مع حدوث صوت منبه بسبب احتكاك الجسمين ...وهذا يناسب تماما إحدى وظائف المثل وهي تنبيه الناس وإثارة أذهانهم ..كما في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ... }الحج73 فتشاكل في الآية الكريمة فعل الضرب مع حاسة السماع والدعوة إلى الانتباه... وهذا سبب -والله أعلم- من أسباب ورود النهي عن ضرب الأمثال لله تعالى...فالله ليس غافلا فينبه.... {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }النحل74 وضرب الأمثال لله هو من ديدن الكفار والمشركين،: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ }يس78 {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ }الزخرف17 ب-مادة"ضرب"قد تأتي بمعنى "مثل" فيتحول التشاكل إلى ترادف.. قال في اللسان: -"الضَّرْبُ المِثْل والشَّبيهُ وجمعه ضُرُوبٌ وهو الضَّريبُ وجمعه ضُرَباء.. -وقوله عز وجل كذلك يَضْرِبُ اللّهُ الحقَّ والباطلَ أَي يُمَثِّلُ اللّهُ الحقَّ والباطلَ حيث ضَرَبَ مثلاً للحق والباطل والكافر والمؤمن في هذه الآية . -ومعنى قوله عز وجل واضْرِبْ لهم مثلاً أَي اذْكُرْ لهم و مَثِّلْ لهم. -يقال عندي من هذا الضَّرْبِ شيءٌ كثير أَي من هذا المِثالِ - وهذه الأَشياءُ على ضَرْبٍ واحدٍ أَي على مِثالٍ - قال ابن عرفة ضَرْبُ الأَمْثال اعتبارُ الشيء بغيرِه. - فمعنى اضْرِبْ لهم مَثَلاً مَثِّلْ لهم مَثَلاً." قال ابن عاشور في تفسيره لقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا..}البقرة26 "وجوز بعض أئمة اللغة أن يكون فعل ضرب مشتقاً من الضرب بمعنى المماثل فانتصاب { مثلاً } على المفعولية المطلقة للتوكيد لأن مثلاً مرادف مصدر فعله على هذا التقدير ، والمعنى لا يستحي أن يشبِّه بشيء ما " على هذا المعنى يكون فعل "ضرب" يوحي بإحدى وظائف المثل وهو الاعتبار والانتقال من النظير إلى النظير...فالناس أضراب :ما يقع لبعضهم قد يقع لغيرهم، إذا اتحدت الاسباب وتماثلت العلل. ج-من معاني الضرب الصياغة... ف"ضرب المثل" يوحي في الذهن بمعنى" ضرب السكة"...قال الأزهري في تاج العروس: "ثم إِنه اخْتُلِفَ في أَنَّ ضَرْبَ المَثَل مَأْخَوذٌ مِمَّاذَا ؟ فقِيل : من ضَرْبِ الدِّرْهَم صَوْغُه لإِيقَاعِ المَطَارِق سُمِّيَ به لتَأْثِيرِه في النُّفُوسِ..." على هذا القول سنلحظ توافقات عجيبة بين السكة المضروبة والمثل المضروب...توافقات على صعيدي الشكل والمضمون معا: -شكليا العملة منقوشة لا تتغير صياغتها وكذلك المثل المضروب لا يتغير تركيبه فهو عبارة مصكوكة ومسكوكة...فمثل" الصيف ضيعت اللبن" يحتفظ بخطاب الأنثى دائما سواء قيل لامرأة أو لرجل لفرد أو لجماعة. -دلاليا :العملة النقدية الواحدة تتداولها الأيدي وتستعمل لمرات كثيرة دون أن تفقد شيئا من قيمتها..وتبقى دائما صالحة للصرف والشراء.وكذلك المثل تتداوله الألسنة والأقلام في ظروف مختلفة دون أن يفقد شيئا من مخزونه المعنوي. لعل في هذا الطابع التكراري ما يكشف عن سر استعمال فعل "صرف"في الحالتين الوحيدتين حيث حصل العدول عن "الضرب" ،أعنى في آية الإسراء وآية الكهف. والله أعلم. 2- رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ .... من الرجلان؟ من الذي امتلك الجنتين منهما؟ القرآن أبهم ...وفي هذا الإبهام سر بياني بديع! لقد رجح جمهور المفسرين الأصل الواقعي للقصة بدل الطابع الافتراضي للمثل.وفي ذلك يقول الألوسي: "والمراد بالرجلين إما رجلان مقدران على ما قيل، وضرب المثل لا يقتضي وجودهما، وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه ." وتناقل المفسرون روايات مختلفة–إن لم نقل مختلقة-جعلت للرجلين اسما ونسبا وحرفةوعقيدة وخلقا .... وهذه التعيينات –بقطع النظر عن الصحة والبطلان- ضررها أكثر من نفعها فحسبها أنها تتجه إلى غير وجهة القرآن: القرآن يريد الإبهام...ولن يكون التعيين إلا عرقلة للذهن في سبيل ادراك مقصد القرآن من المثل... المقصد هو الابتلاء...والابتلاء له بعد مستقبلي ....بخلاف الثواب والعقاب والاستدراج التي تتموضع على البعد الماضوي. فلو عيننا الرجلين مؤمنا وكافرا مثلا،فإنّ جعْلَ الجنتين للمؤمن وحده سيجعل النفس ترى في ذلك ثوابا ما...وإن جعلتا للكافر رأت النفس فيه استدراجا ما...وهكذا فكل تعيين لماضي الرجلين سيلقي بظله على الحدث الحاسم في المثل. الرجلان في القرآن ليس لهما ماض...والتأكيد كل التأكيد على مستقبلها: ها نحن هنا في قلب خطاب الابتلاء. تبدأ القصة بالتجانس والتشابه ...وتنتهي بالتباعد بعد المشرقين عن المغربين... -"رجلين" صيغة المثنى المنكر توحد الشخصين وتجانسهما فلا اختلاف ولا تميز. -" جعلنا لأحدهما" تعبير يؤكد مقصدية التجنيس...فلم تجعل الجنتين لأفقرهما أو أصغرهما أو أتقاهما ...بل لأحدهما ..و"أحدهما" صادقة على أي منهما. فكأن البيان القرآني بأسلوب الإبهام يضع أمام الفكر أحداثية المنطلق والمنتهى ليقدر بدقة اختلاف الأقدار والمصائر... لم يكن في البدء إلا رجلان...أما النهاية فسنعلمها بعد حين. رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ ... هذه الجملة مبنية على التوتر...ومن ثم كانت عمود المثل ومؤسسة للحدث والموقف:فكل التفاصيل وكل النتائج تمت بصلة إليها : "رجلين" /"جنتين"....تعادل وتشاكل. "جعلنا لأحدهما"كسر للتعادل وتدشين للتوتر في صورة" الابتلاء": الحدث واحد لكن الابتلاء مثلث: -ابتلاء لصاحب الجنتين:أشكر أم بطر. -ابتلاء للثاني:أصبر أم كفر. -ابتلاء للقاريء/ الشاهد للقصة: أتسليم أم لجاجة ..فهنا مدخل موطأ لوسوسة إبليس :لماذا كان التوزيع على ذلك النحو...رجل له جنتان اثنتان ورجل ليس له شيء ...ألم يكن أولى لو......-أعوذ بالله من الشيطان الرجيم- لكنه سلطان الربوبية: انظر كيف عبر بضمير الجمع الدال على التعظيم:"جعلنا"! 3- جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً{32} لعل المقصد الرئيس من الذكر المسهب للجنتين وصفا واحتواء هو إظهار التنويع والشمول.. ويتفرع عن أصل هذا المقصد ثلاث مقاصد فرعية أرتبها بحسب تزايد الأهمية: 1-المقصد الجمالي . 2-المقصد النفسي. 3-المقصد الخلقي. ... أولا:المقصد الجمالي: البيان القرآني يظهر الجنتين لوحة جميلة في غاية التناسق:وجاء الوصف دقيقا-مع إيجاز-حتى أن المستمع لا يكاد يجد صعوبة في استحضار صورة الجنتين في ذهنه..بل يمكن للمرء أن يأخذ القرطاس والقلم ويخطط صورة تقريبية للجنتين اثناء القراءة...حتى إذا فرغ من القراءة وجد نفسه فرغ من الخطاطة... أعناب ونخل وزرع... شمولية لما ينبت من الأرض،وتنوع للثمار،وزينة في المشهد: ذكر من الشجر نوعين..ولما كان الشجر يراد لنفسه-الاستظلال والاسترواح- أو لثمره –استهلاك واستثمار-فقد نوع في التسمية لتحقيق الشمولية من هذه الجهة: فذكر النوع الأول بالتنصيص على ثمره :الأعناب. وذكر النوع الثاني بالتنصيص على شجره:نخل. هذا التكامل مع التقابل يظهر مرة أخرى في شكل الامتداد في النوعين: -فالنخل له امتداد عمودي فهو يتجه نحو الأعلى. -والعنب له امتداد أفقي فهو ينتشر على الأرض. فحصلت متعة العين في حركتيها معا. -يمكن أن نلاحظ أن عنقود العنب يجنى غالبا من أسفل...وطلع النخل يسقط من أعلى..فكأن الرجل -صاحب الجنتين- يأتيه رزقه رغدا من السماء والأرض معا!!- ثم يأتي الزرع –أو المساحة المزروعة-لتقسم اللوحة إلى قسمين متناظرين: جنة على اليمين وجنة على الشمال. ثم يأتي النهر ليحدث تقسيما عكسيا فيكون في الجنتين قسم شمالي وقسم جنوبي.. (الشمال والجنوب في تقسيم النهر ليس ضربة لازب فقد تتخيل النهر يقسم من البعد الأخر) واختراق النهر للجنتين معا ظاهر في البيان القرآني عند قوله عز وجل: وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً{33}وهكذا تكتمل اللوحة أمام العين المتأملة: أعناب محفوفة بالنخل في مثل دائرتين...زرع في مساحة فاصلة بين الدائرتين ...ثم نهر يخترق العنب والنخل والزرع... لكن لماذا كانت الجنتان على هذا النحو؟ أليس في جغرافيتهما ما يوحي بإمكان التقسيم العادل: ماذا لو جعل الزرع محورا ممكنا في التقسيم ؟لي يمينه ولصاحبي شماله. ماذا لو جعل النهر محورا ممكنا للتقسيم؟لي شمال النهر ولصاحبي جنوبه. لا ننس أن القصة كلها للابتلاء...وبدايتها رجلان جعل الله لأحدهما جنتين ليرى -عز وجل- كيف يصنع . فالبعد الجمالي يستبطن بعدا أخلاقيا. ثانيا: المقصد النفسي: للجنتين انعكاسات جمالية في بصر صاحبها..كما لهما إيحاءات نفسية بالغة الأهمية... هذه الإيحاءات تنصب في بؤرة واحدة هي:استشعار الأمن والإحساس بالطمأنينة. 1-حففناهما بنخل: يبدو أن الثروة الأساس هي العنب:قال عز وجل:"جنتين من أعناب"أما النخل فقد أنيطت به وظيفة أخرى هي الحماية –مع كونه من ضمن الثمرات- فالنخل يحف الجنتين بحيث يتم عزلهما عن الخارج..واضح أن قامات النخل الباسقات ملائمة لهذا الشأن...ويستتبع هذا العزل تمحض الملكية...والإحساس بالتملك. بدون إحاطة النخيل لا يحصل ذلك الإحساس...لك مثلا أن تقارن بين إحساس صاحب شقة في عمارة وصاحب فيلا مسورة..فتمحض الملكية عند الثاني أقوى بكثير من تمحضها عند الأول...نحن هنا لا نتحدث عن الملكية من وجهة نظر قانونية قائمة على الرسوم والصكوك.. ولكن من منظور الشعور والإحساس. ثم انظر كيف قال عز وجل بعد ذلك: "ودخل جنته وهو ظالم لنفسه." فعل "دخل" يفترض الانتقال من فضاء مفتوح إلى فضاء مغلق.. من فضاء عمومي شائع إلى فضاء خصوصي محفوف بالشجر الباسق حيث الإحساس بالحميمية والعزلة عن الآخرين... وقد جاء دخوله-فعلا- لجنته عقب محاورة صاحبه قطعا لها، وانفصالا عن صاحبه القديم. 2-أعناب ونخل. لتحقيق مقصد الشمول اختار البيان القرآني المعجز النوعين من الشجر لما في ثمرهما من أحوال وعطاءات: -حالة التفكه:العنب فاكهة والتمر كذلك –البسر والرطب- -حالة التقوت:العنب يخزن زبيبا، وكذلك التمر. -حالة التوسع:العنب يعصر ... وخلف هذا التنوع نجد مرة أخرى الإحساس بالأمن: فلما كان التمر والعنب يقبلان التخزين ...تجاوزت مدة الاستفادة زمن جني العنب والتمر لتشمل السنة كلها- بل السنوات-وهذا أدعى لاستشعار الأمن الغذائي. 3-وفجرنا خلالهما نهرا. مع النهر –الماء الضروري للحياة-يصل الإحساس بالأمن إلى أعلى درجاته،فالرجل يجد حاجته من السقيا في الأرض القريبة لا في السماء البعيدة:ثم إن الغيث قد يأتي وقد يتخلف أما النهر فماكث دائم...ولم لا يطمئن: -والماء غير بعيد فهو وسط الجنتين. -وهو غير قليل فالقرآن استعمل كلمة" فجرنا" الموحية بقوة الماء وغزارته. -ثم هاهنا إشارة إعجازية تكشف أن القرآن تنزيل ممن لا يخفى عليه شيء... قال عز من قائل: فجرنا خلالهما... فمنبع النهر من مكان ما في الجنتين ولم يأت من خارجهما ...فالرب العظيم فجر الماء في الجنتين ولم يسقه إليهما مثلا ...لماذا؟ لو جاء النهر من الخارج لانعدم الاحساس بتمحض الملكية...ولربما شابه نوع من القلق والخوف :من يدري فقد يقوم غيره بتحويل مجراه أو تلويثه... ولكي يمعن الرجل في الشعور بالتفرد والاستقلالية جعل الله النهر منفجرا في جنته ذاتها.. فكانت نتيجة الاستدراج أن قال الرجل: "ما أظن أن تبيد هذه أبدا...." المقصد الخلقي: أولا: ابتدأ المثل بحالة متجانسة لا تميز فيها فقد جرد الشخصان من كل السمات الفارقة ولم يذكرا إلا بأعم صفة مشتركة"رجلين" ثم وقع الشرخ الإجتماعي في صورة تفاوت الملكية: "جعلنا لأحدهما جنتين" فنشأت أول سمة فارقة:غنى/فقر...ثم تولدت عنها السمات الفارقة الأخرى تترى. وفي التنصيص على العدد اثنين تحريك للضمير وتوجيه للنظر: فهنا رجل له جنتان أي ملكية فائضة...وثمة رجل آخر ليس له من الملكية شيء، فالوضع يقتضي المواساة وجبر الخاطر.. لكن الغني كانت له وجهة غير الوجهة المنتظرة من ذي فكر سديد. قال –في أول ما قال-: أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً. ليست المواساة ولكنها النكاية... ليس جبر الخاطر ولكنه التشفي... ليس السعي في تخفيف الفرق ولكن العمل على إظهاره قولا بعد الفعل... والحصيلة ازدياد ألم الفقير والوقوع تحت قهرين: القهر المادي المتمثل في فقره. والقهر الرمزي أو المعنوي الناتج عن مقالة صاحبه المستكثرة من المال والنفر. فنلحظ الابتلاء المزدوج في أحكم صورة وأمتنها: -تراكم المنافع المادية عند المطالب بالشكر. -وتضاعف الهموم (ماديا ومعنويا)عند المطالب بالصبر. ثانيا: "جعلنا لأحدهما جنتين" هذا التفضيل،بدون سبب ظاهر، سيفضي إلى قياس خاطيء- وقاتل إن لم يعتبر فيه مقصد الإبتلاء-قال الرجل: وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً{36} اجتمع في العبارة ثلاث مؤكدات:القسم،اللام،النون. فمن أين جاء الرجل بكل هذا الجزم ؟ لم يخطر ببال الغني معنى الابتلاء، فقاس حال الآخرة على حال الدنيا...فتوهم أنه إذا كان قد أعطي جنتان اليوم فلا شك أن الله قد رأى فيه ما يقتضي الإكرام والتفضيل...فلا بد من استصحاب القاعدة واطرادها عاجلا وآجلا: إذا كانت الآخرة خيرا من الأولى فليكن نصيبه هناك خيرا من نصيبه هنا!! ثالثا: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً{32} كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً{33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ.. اعتبار توزيع الضمائروالفاعلين في هذه الآيات يكشف عن سر بياني بديع: -ليس للرجل صاحب الجنتين أي "فعل". -الأفعال كلها لله تعالى-بضمير التعظيم- أو للأسباب العادية. فمن النوع الأول ثلاثة: "جعلنا"،"حففنا"،"فجرنا" وهي أفعال لله الخالق المنشيء. ومن النوع الثاني اثنان:"آتت"،"لم تظلم"وهما فعلان يفيدان المطاوعة والاستجابة . أما الرجل فهو عاطل عن العمل،فليس له أدنى مجهود مذكور لاستحقاق الملكية أوبعضها. والطريف أن في الآيات السابقة ضميرين عائدين على الرجل : ضمير في البداية:"أحدهما" ضمير في النهاية: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ. فكأن البيان القرآني المعجز أحضر الرجل في البداية عند "تسلم" الجنتين وانعقاد الملكية ..وأحضره ثانية في النهاية عند تسلم الناتج والغلات ،ومابين اللحظتين لا عناء ولا حرث ولا سقي ولا شقاء... فلم لا يكون الرجل"مدللا"!!! رابعا: رأينا أن وصف الجنتين عمد إلى إظهار معنى"الاستمرارية " و "البقاء": -فالناتج من الأرض عنبا وتمرا يقبل التخزين وفي ذلك تجاوز للفصول والمواسم . -وأسباب استمرار الناتج قائمة في الجنة ومتوفرة فيها ومستقلة بها كما يراها الرجل متجسدة في النهر المتفجر،فلا خوف من تقلبات المناخ وعاديات الظروف. هذا الإحساس بالأمن والاستقلال خطير جدا... فقد نشأ عنه خط فكري منحرف أفضى بصاحبه إلى الهلاك: -هذه الجنة لن تبيد بفضل توفر أسباب الحياة.. -ولما كانت هذه الجنة جزءا من الحياة الدنيا فقد سرى حكم الجزء إلى الكل:فالدنيا مستمرة ، إذن فلا آخرة. قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً{35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً. لكن هذا التمرين الفلسفي الذهني لا يقاوم المعيش الواقعي: فهب الدنيا لا تبيد..فماذا عن نفسه هو، أهو أيضاخالد في جنته؟ هو قطعا سيموت..فما السبيل لمنع الحسرة والقلق ؟ يعود مرة أخرى للتمرين الذهني: هو ميت....فلا بد من افتراض حياة أخرى -للنجاة من العدم-. ولا بد من استئناف السعادة هناك على أعلى مستوى –مستوى الخلود. "وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً" وهكذا أمن الرجل نفسه على كل تقدير!! 4- وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً{32} كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً{33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ. هذا الوصف من بديع بلاغة القرآن:يضع أمامنا مثالا معجزا لاجتماع أسلوبي الإطناب والإيجاز ... فعندما وصف نشأة الجنتين أسهب واسترسل وفصل: -جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ -وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ -وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً - كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا. - وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً. - وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً. - وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ. سبع جمل...كذلك الحياة تنشأ شيئا فشيئا..وتنمو جزءا فجزءا..وتحتاج إلى رعاية وتربية وتدبير. لكن الموت يأتي كلمح بالبصر ليضرب ضربة واحدة... وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ. جملة واحدة ...واحدة فقط...لكنها كافية للإتيان على كل ما سبق.فالجنين يحتاج إلى بضعة شهور ليتكون في الرحم بإذن الله...لكن لا يحتاج إلا لأقل من ثانية ليموت بأمر الله .!! فانظر كبف عبر توزيع الجمل عن حظ الحياة وحظ الموت. ثم لاحظ كبف بني فعل" أحيط" لما لم يسم فاعله عكس الأفعال السابقة..إشعارا بالخفاء والغموض والبغتة... قاتل الله أبا الطيب ما أشعره عندما يقول: وما الموت إلا سارقٌ دقّ شخصه ... يصول بلا كفٍ ويسعى بلا رجل ثم لاحظ كيف أن فعل الإحاطة وقع على الثمر...وهي آخر ما ذكر في مسار الحياة وأشرف ما فيها :لأن لها مقام المقصد وما سبقها من باب الوسائل. أريد هنا- بمناسبة الحديث عن الحياة والموت-أن أشير إلى سر تكرار "أصبح "ثلاث مرات في ثلاث آيات متعاقبات: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا. [ثمة تكرار رابع في المثل الموالي : فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ] "أصبح" من أفعال التصيير والتوقيت معا: فهو يعنى الانتقال من حال إلى حال ،كما يؤشر على حلول زمن الصبح. قال الزبيدي: -أَصْبَحَ : دَخَل فيه " أَي الصُّبْحِ كما يقال : أَمْسَى إِذا دخل في المَسَاءِ... وفي التَّنْزِيل " وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ " -أَصْبَحَ : " بمَعْنَي صارَ " . واستقراء التنزيل المحكم يكشف عن معنى بديع : توقيت العذاب والهلاك بالصبح... وهو معنى منصوص عليه في قوله عز وجل : إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }هود81 وأشار إليه في مناسبات متعددة من هلاك الأقوام : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }الأعراف78 {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ }هود67 {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }العنكبوت37 {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ }الأحقاف25 {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ }القلم20 وقد يعبر بالشروق عن المعنى ذاته: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ }الحجر73 {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ }الشعراء60 [والآية الأخيرة عن فرعون...قال الطبري:مشرقين: حين أشرقت الشمس، وقيل حين أصبحوا.] وفعل أصبح يأتي كذلك في معرض الأمثال للدلالة على النهاية كما في مثل الرجلين الذي ندرسه وفي المثل الذي جاء بعيده في السورة نفسها: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً }الكهف45 أرى –والله أعلم-أن اقتران الهلاك بالصبح جاء لاعتبارات نفسية شعورية واجتماعية حضارية. 1-فالعرب الذين خاطبهم القرآن العظيم كان في معهودهم أن الإغارة لا تكون إلا في الصباح..كما أشار القسم القرآني في سورة العاديات: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً }العاديات3 ومن ثم كان نداؤهم:"واصباحاه" بمثابة إنذار عام. جاء في سنن البيهقي الكبرى: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - - حَتَّى صَعِدَ عَلَى الصَّفَا فَهَتَفَ : وَاصَبَاحَاهُ. فَقَالُوا : مَنْ هَذَا الَّذِى يَهْتِفُ؟ قَالُوا : مُحَمَّدٌ. وتوسعوا في هذا الاقتران حتى سموا الحرب نفسها صباحا. قال في العروس: من المجاز : هذا " يومُ الصَّبَاحِ " ولَقِيتُهم غَدَاةَ الصَّبَاحِ : وهو " يَومُ الغَارَةِ " قال الأَعشى : به تَرْعُفُ الأَلْفَ إِذْ أُرْسِلَتْ ... غَدَاةَ الصَّبَاحِ إِذَا النَّقْعُ ثارا فالأمم الهالكة فيما سبق أعلنت الحرب على الله بشركهم واستهزائهم بآياته ورسله.."فأغار" الله عليهم صبحا وكأن رب العزة-وهو الحكم العدل-لم يشأ أن" يخرق "تقليدهم الحربي فأرسل جنده صباحا...وفيه من مراعاة الإنصاف ما فيه.ف و!! 2-أما الاعتبار النفسي فلأن الإنسان بحكم فطرته يخشى من الليل ومن الظلام..ومن ثم فهو يتوقع المكروه فيه لأن ظلامه ستر مساعد لكل من يريد به سوءا..وهكذا أملى التوجس على الإنسان الهلوع أن يتخذ الحرس والعسس ،وأن يغلق المنافذ والأبواب... ثم توهم الإنسان أن ظهور ضوء الصبح يضع نهاية التوجس والترقب..فمن شأن النور الكاشف ويقظة الناس وانتشارهم التقليل من الخوف وتزايد الإحساس بالطمأنينة والأمن... الصبح إذن هو زمن "تنفس الصعداء" فلا جرم أن اختاره العزيز الجبار زمنا للخوف والهلاك..ليقابل مكرا بمكر،وصدق الله: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا. فالمفاجأة مؤلمة حقا والعذاب شديد: كان الإنسان يتوسم الخروج من احتمال السوء خلفه-ليلا- فإذا هو منغمس فيه بين يديه -صبحا- قال عز وجل عن صاحب الجنتين-سابقا-: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا. اكتشف انهيار كل شيء عندما فتح عينيه فكأنه انتقل من حلم لذيذ إلى كابوس يذهل العقول... *** 5- يتكون هذا المثل من سبيكتين : -السبيكة السردية . -السبيكة الحوارية. وقد انتظم المثل بواسطة ربط بديع للمكونين: السبيكة الأولى أظهرت ما يوجد داخل الجنتين ...أما السبيكة الثانية فقد أظهرت ما يوجد داخل الرجلين! فتحقق التنويع القرآني المعهود: فثم خطاب للبصر يدعو العين لاستكشاف الجنتين .وهنا خطاب للوجدان يدعو الروح لاستبطان أغوار النفس البشرية والكشف عن دسائسها. لكن الجدير بالملاحظة هو كيفية دمج السبيكة الحوارية وسط السبيكة السردية بحيث ظهرت القطعة الحوارية كأنها قطعة اعتراضية دون أن تكون كذلك! فلو تتبعنا الخط السردي وحده إلى نهايته -دون أن نقرأ حوار الرجلين- لانتظم الكلام متناسقا على وتيرة واحدة: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ[...]وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ... فمن الممكن اعتبار الواو عاطفة -دلاليا وليس نحويا-فكثيرا ما نجد في نظم القرآن تجاور أوج الحياة مع حضيض الفناء بحيث يتم الانتقال من حالة إلى أخرى سريعا جدا... كما في المثل الثاني في هذه السورة الكريمة نفسها: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ .... فعندما نقرأ "فأصبح..." نتوقع -بل نأمل-كلاما عن الاخضرار والنمو والازدهار فقد ذكر قبلها اختلاط الماء بالنبات- المؤذن بتزاوج أسباب الحياة -والعطف الفوري" بالفاء" يرشح شيئا مثل "فاخضر"أو "فنما" أو "فاستوى" لكن البيان المعجز فاجأ القاريء بطي كل ذلك :فما أن ابتدأت الحياة حتى انتهت...!!وما لبث الأجل أن عاجل الأمل...!! فانظر إلى قوة التعبير في الحالتين: فعند وصف الجنتين أسهب وفصل، لأن المقصد هو الابتلاء ،فالله الحكيم يعرض على عبده زينة الحياة الدنيا بتفاصيلها، وعندما كان المقصد هو ذكر هشاشة الدنيا وتفضيل الأخرى عليها["وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا"] لم يذكر إلا نشأتها وكأن ما بعد ذلك لا يستحق أن يذكر.فلله در هذا القرآن! جاءت السبيكة الحوارية في موضع اعترضت فيه الكلام عن الثمر: فقبلها : "كان له ثمر"- ثمر مرفوعة- وبعدها:"وأحيط بثمره"- ثمر مجرورة - والحوارية قامت بوظيفة تعليلية للحالتين معا. والفاء- كما قال ابن عاشور-" لتفريع جملة { قال } على الجُمل السابقة ، لأن ما تضمنته الجمل السابقة من شأنه أن ينشأ عنه غرور بالنفس يَنطق ربه عن مثل ذلك القول ." "كان له ثمر" هو سبب لإظهار "الأنا" الإبليسية الكامنة في الرجل :" أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا" الحوار - بما تضمنه من كبر وغرور- مسبب عن كثرة الثمار... وهو نفسه- بما تضمنه من بطر وكفر-سبب للإحاطة بالثمار. فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ... قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ.... ما سر تكرار الجملة الحالية ؟ لم أجد عند المفسرين شيئا يذكر،بل لم ينشغل سوادهم بالمسألة أصلا إلا ما كان من أبي السعود الذي حاول بيان فائدة التكرار وماكان من الألوسي الذي اكتفى بتكرار عبارات أبي السعود بنصها،-وهذا يدلك على أن السؤال البياني في تراثنا التفسيري لم يحظ بما حظي به السؤال الفقهي أو العقدي أو النحوي- قال أبو السعود رحمه الله في تفسيره: "{ قَالَ لَهُ صاحبه } استئناف كما سبق { وَهُوَ يحاوره } جملة حالية كالسابقة ، وفائدتها التنبيه من أول الأمر على أن ما يتلوها كلام معتنى بشأنه مسوق للمحاورة" . لا يخفى ضعف مثل هذا التعليل ونأيه عن القاعدة العامة في تفسير القرآن المقتضية لحمل المعنى القرآني على أبلغ وجه..وما اعتبر هنا من قبيل التنبيه ليس إلا تحصيل حاصل: فالمحاورة : مراجعة الكلام بين متكلميْن،وعبارة "وهو يحاوره" الأولى تفترض على الأقل قولا من متكلم وردا من مستمع...بل إن فعل"حاور"يدل على الرد من الجهتين: -من جهة المادة المعجمية . -ومن جهة الصيغة. فمادة "حور"تعني الرد والرجوع كما في قوله تعالى:إنه ظن ألن يحور...وكما في قول العرب:"لم يحر جوابا"أي لم يجد ما يرد به على محاوره. وصيغة "فاعَلَ"من معانيها الدلالة على تناوب الفاعلية والمفعولية...مثل "راسل" و"صارع" و"قاسم" وغيرها..ففي مثل هذه الأفعال لا بد من وجود ذاتين تقوم كل واحدة منهما بدور الفاعل ودور المفعول. وعند تأمل حوار الرجلين لن نجد غير قولين :ما قاله صاحب الجنتين علوا واستكبارا وما أجابه صاحبه تبكيتا وتأنيبا... ولا ريب أن عبارة "وهو يحاوره" الأولى دلت على هذا الجواب بالدلالة التضمنية ومن ثم لم يكن ثمة حاجة إلى التنبيه على ما لا يغفل عنه ! فعاد السؤال: ما سر تكرار الجملة الحالية ؟ ظهر لي-والله أعلم-أن الغاية من التكرار هو التنبيه على أن هناك حوارين منفصلين في الزمان لا حوار واحد..وعلى هذا يكون تقدير الجملة الثانية "قال له صاحبه وهو يحاوره [كرة ثانية]" فتكون الجملة الحالية مؤسسة لحوار جديد لا مؤكدة ...ويترتب على هذا الاعتبار أمور: 1-وجه بديع من الاحتباك: فمن الحوار الأول احتفظ القرآن برد صاحب الجنتين وطوى قول صاحبه. ومن الحوار الثاني احتفظ القرآن برد الفقير وطوى قول صاحب الجنتين. 2-قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرًا عما أجابه صاحبه المؤمن، واعظًا له وزاجرًا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار: { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا } ؟ وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه، الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، كما قال تعالى: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة:280] أي: كيف تجحَدُون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه، فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدومًا ثم وجد، وليس وجوده من نفسه ولا مستندًا إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله، لا إله إلا هو، خالق كل شيء؛ ولذا قال: { لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي } أي: أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالربوبية والوحدانية { وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا } أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له." كفر صاحب الجنتين هو كفر بالربوبية وهذا المعنى غير موجود في مقالته الأولى : قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) فهذا القول يتضمن الشك في البعث وليس فيه جحود الربوبية، وقول الزمخشري :"جعله كافراً بالله جاحداً لأنعمه لشكه في البعث ، كما يكون المكذب بالرسول كافراً ."قول غير صحيح..من وجهين: -الرجل يذكر إيمانه بالرب في سياق التوكيد بالقسم "وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي" فكيف يجعل كافرا بالرب! -صاحبه عند الرد عليه لم يذكر أمر المعاد وإنما وبخه على كفره بالرب" أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ" وعندما نص على عقيدته هو لم يذكر البعث وإنما أكد توحيد الربوبية:" لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا " . نعم، المكذب بالرسول كافر،ولكن في مقام المناظرة لا يليق أن نحتج عليه بدلائل البعث والنشور مثلا، إذ ينبغي تحرير محل النزاع باعتبار مناط الكفر لا الكفر مطلقا...وظاهر من جواب المؤمن أن مناط كفر صاحبه هو الربوبية فرد عليه بدليل الخلق كما جاء في تفسير ابن كثير.. وهذا يقتضي أن يكون الصاحب المؤمن يرد على مقالة كفرية أخرى غير المذكورة ،مقالة فيها كفر غليظ هو إنكار وجود الله ،وهي المقالة المطوية والمدلول عليها من خلال الرد على وجه الاحتباك. 3-بهذا التقرير يتكشف وجه دلالي آخر له خطر عظيم : فصاحب الجنتين بدأ شاكا في البعث فقط ،ثم سار به الأمر إلى إنكار وجود الله عز وجل ...ولأمر ما تكرر في القرآن والسنة ذكر الإيمان والكفر باعتبارها صراطا وسبلا وطرقا...فالسبل والطرق ليست للتوقف وإنماخلقت للسير والانتقال من مرحلة إلى أخرى فلا يمكن للمؤمن أن يقول مثلا:" أقف الآن و حسبي ما لدي من إيمان وعمل "لأنه إن لم يتقدم تأخر قطعا .وكذلك الكافر إن لم يعد إلى الهدى توغل في الكفر لا محالة.وهذا معنى قول السلف" المعاصي بريد الكفر" فاحفظ هذا الناموس جيدا فهو نفيس. 6- فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) يستجيب ترتيب الكلمات في قول صاحب الجنتين لاعتبارات بيانية في غاية الأهمية..كما أنها تفسح المجال لافتراض نسيج كلامي مكون من ثلاث خطابات متوالية: -خطاب أناني/ إبليسي. -خطاب مادي/ تكاثري. -خطاب حربي/ إرهابي. 1-"أنا" استهلال الخطاب بالضمير المنفصل الدال عن الذات "أَنَا"وإشفاعه بصيغة التفضيل" أكثر" يلحق خطاب صاحب الجنتين بالخطاب الإبليسي/الفرعوني: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ. الأعراف12 {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ }الزخرف52 إنها الذات البارزة والمتصدرة عند الغني في مقابل الذات عند الصاحب الفقير وهي الخفية التي لا يكاد يشعر بها: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) فالقاريء غير اليقظ قد لا يشعر بوجود ضمير المتكلم المفرد المنفصل" أنا"في خطاب الرجل الفقير: قال الكسائي : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : "لكن الله هو ربي أنا" ، فحذفت الهمزة من «أنا» طلباً للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف «أنا» في الوصل وأثبتت في الوقف . وقال النحاس : مذهب الكسائي والفرّاء والمازِنِيّ أن الأصل "لكن أنا" فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها "لكنا" وهي ألف أنا لبيان الحركة . وقال أبو عبيد : الأصل لكن أنا ، فحذفت الألف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك. (انظر هذه الأقوال في تفسير القرطبي) 2-"أكثر منك مالا" تفصح عن هذه العقلية التكاثرية التي لا تبصر من الوجود غير مقولة "الكم".فما أشبه خطاب العصر بخطاب صاحب الجنتين!فإنك لا ترى القوم يصنفون ويرتبون إلا على سلم العدد وسواء في ذلك تصنيف الأفراد وتصنيف الأمم..فمقياس التقدم والتطور-زعموا-هو ما يحسب ماديا بمقدار الدخل الفردي والقومي والميزان التجاري وقيم الاستهلاك وحجم الاحتياط.. ولعل أخطر ما يلازم هذه العقلية التكاثرية هو سد الطرق على كل الاعتبارات الأخرى حتى يقع الهلاك الحتمي ، مصداقا لقوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } 3- وَأَعَزُّ نَفَرًا استقراء آيات التنزيل التي تعدد نعم الله على الخلق يكشف عن قاعدة في ترتيب النعم حيث يذكر المال أولا ثم البنين بعده: -{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً }الإسراء6 -{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }الكهف46 -{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ }المؤمنون -{أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ }الشعراء -{أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ }القلم -{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً }نوح -{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً}. المدثر. والسر في هذا يرجع إلى أن كمال النعمة هو في هذا الترتيب بالضبط: مال ثم بنون. فالبنون قبل المال-أو بدون مال- هو مصدر قلق وليس نعمة ،كما أن المال بدون بنين هو أدعى للحسرة والأسف. (ملحوظة: في آية آل عمران وقع ذكر البنين قبل المال لأن السياق ينص على الشهوة وليس النعمة لذلك جاء الترتيب فيها وفق قوة الشهوة {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }آل عمران14) "أعز نفرا" جاءت في المرتبة المحفوظة للبنين لذا ذكر جل المفسرين أنها معادلة للبنين على سبيل التضمن كما في قولي ابن كثير والقرطبي... أو على سبيل المطابقة كما في قول ابن عاشور: -قال ابن كثير"{ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا } أي: أكثر خدمًا وحشمًا وولدًا. -قال القرطبي: النفر : الرهط وهو ما دون العشرة . وأراد هاهنا الأتباع والخدم والولد . -قال ابن عاشور: والنفَر : عَشيرة الرجل الذين ينفرون معه . وأراد بهم هنا ولده ، كما دل عليه مقابلته في جواب صاحبه بقوله : { إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً } [ الكهف : 40 ] . هذا،وقد عدل عن ذكر البنين إلى تعبير" أعز نفرا" لإكساب الخطاب طابعا تهديديا :"النفر "و"النفير" تنتمي إلى الحقل الدلالي الحربي..فصاحب الجنتين لا يكتفي بإظهار نفسه في أبهة الغني بل هو قوي أيضا ذا سلطة...فهو مالك للثمر وقادر على حماية ملكيته بما أوتي من ولد ينفرون معه..وهو في حواره مع صاحبه يقوم بمعرض اقتصادي واستعراض عسكري معا. .!! وَدَخَلَ جَنَّتَهُ .... قال الزمخشريفإن قلت : فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت : معناه ودخل ما هو جنته ماله جنة غيرها ، يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون ، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما). قول الزمخشري" ما هو جنته"يفيد أن هنا جنة اعتبارية أي ما هو مقابل للجنة التي وعد الرحمن عباده، لكن قوله لم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما يأباه السياق لذا انتقده أبو حيان: (ولا يتصور ما قال لأن قوله ودخل جنته إخبار من الله تعالى بدخول ذلك الكافر جنته فلا بد أن قصد في الإخبار أنه دخل إحدى جنتيه إذ لا يمكن أن يدخلهما معاً في وقت واحد) ولو جمع الزمخشري بين المعنيين لكان أوفق ،إذ لا مانع من أن يكون الرجل قد دخل جنته-إحدى جنتيه- فعلا ،وتكون إضافة الجنة إليه إشارة إلى أن هذا هو نصيبه ،ولا مطمع له وراء ذلك.. على اعتبار أن الإنسان قد كتب له نصيبه من الجنة على كل حال لكن يعجل للكافر في الدنيا ويؤجل للمؤمن إلى الآخرة.. استئناسا بمعنى قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا وبمعنى قوله : الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر. وعلى هذا يكون استبعاد الشوكاني لهذا المعنى فيه نظر عندما تعقب الزمخشري بقوله: (وما أبعد ما قاله صاحب الكشاف : أنه وحد الجنة للدلالة على أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون ) ...وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسه هذه الجملة الحالية تضمنت الإشارة إلى مفارقتين : 1-مفارقة في التقييم. 2-ومفارقة في السلوك. -المفارقة الأولى مبنية على التعارض الكبير بين التقييم الظاهري والتقييم الحقيقي.. فالرجل يعتقد أنه أثبت ذاته، وأكدها بالمال والنفر، وحصنها بالأسباب المادية : فنفسه- على ظنه- في زكاة ونمو ،وقوته إلى زيادة واتساع، لكن التقييم الموضوعي المستند إلى استكناه حقيقي للأمر أخبر بشيء آخر:فالرجل لم يفعل أكثر من أنه ظلم نفسه وأوبقها، فالكسب في اعتبارالرجل هو الخسارة عينها، والزيادة في تقديره هي النقصان نفسه.. واختلاف التقييمين مرده إلى اختلاف الاعتبار:فبينا يقوم التقييم الظاهري على ملحظ الحال ،ينهض التقييم الموضوعي على ملحظ المآل...وقد جاءت في السياق الموسع قصة العبدين الصالحين موسى والخضر -عليهما السلام -لتؤكد بالأمثلة المحسوسة هذا المعنى. -أما المفارقة الثانية فتلحظ من خلال المقارنة بين "سلوك"الجنتين وسلوك صاحبهما: فالجنتان "َلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً." وصاحبهما" ظالم لنفسه." واستعمال مادة "ظلم"لوصف الطرفين ، هو الذي أوحى بعقد المقارنة بين المالك والممتلك: الجنة غير عاقلة لكنها مع ذلك تستجيب للأمر اللائق بها –وهو الأمر الكوني-..فإذا توفرت الشروط والأسباب جاءت النتائج وفق ذلك ،فلها أن تخرج كل ما هو كامن فيها من الثمر بدون نقصان ليس محاباة للرجل ولكن استجابة للنواميس...فهي قامت بما" يجب" عليها. لكن الرجل العاقل لم يقم بما يجب عليه ولم يستجب للأمر اللائق به باعتباره عاقلا –وهو الأمر الشرعي-:فلا هو شكر ربه ولا هو واسى صاحبه. خلاصة الامر أن في قوله تعالى عن كلتا الجنتين:"وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً" تعريضا بالرجل الظالم لنفسه وترتيبا له في دركة أسفل من الجماد نفسه. قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً نريد أن نقف هنا وقفة منهجية لها مساس بتصور اللغة ووظائفها وما يترتب على ذلك من تأثير في تفسير كتاب الله: ذهبت طائفة كبيرة من المفسرين إلى أن تقرير الرجل صاحب الجنتين بشأن خلود جنتيه لا يتناسب مع البدائه والعقول والحواس. قال الرازي: (فإن قيل : هب أنه شك في القيامة فكيف قال : ما أظن أن تبيد هذه أبداً مع أن الحدس يدل على أن أحوال الدنيا بأسرها ذاهبة باطلة غير باقية؟) و أكد أبو حيان هذا المعنى من أن"الحس يقتضي أن أحوال الدنيا بأسرها غير باقية") هذا التعارض بين "مقتضى الحال" و"ظاهرالمقال" أزاله المفسرون بارتكاب تأويل يسير في موضعين من الآية: -عند قوله"أبدا" -وعند قوله"هذه". فقد حملوا التأبيد المطلق على تأبيد نسبي ،فالرجل إنما قصد بالأبد مدة محددة –هي مدة حياته مثلا- قال ابن عاشوروالأبَد : مراد منه طول المدة ، أي هي باقية بقاء أمثالها لا يعتريها ما يبيدها .) وهذا التوجيه يقتضيه المقام لإنقاذ الكلام من" التساخُفٌ والاغترارٌ المفْرِط ، وقلَّة التحصيلٍ" –حسب تعبيرالثعالبي-فيم لو احتفظنا بالدلالة الأصلية لكلمة "أبدا". الموضع الثاني يتعلق بتحريرمرجع الإشارة في "هذه"..فذهب فريق من أهل التفسير إلى تعميم دلالة الإشارة . قال الألوسي: وقيل " هذه " إشارة إلى الأجرام العلوية والأجسام السفلية من السموات والأرض وأنواع المخلوقات ،أو إشارة إلى الدنيا ...) وقال الثعالبي: ("وظلمه لنفسه هو كُفْره وعقائدُهُ الفاسدة في الشَّكِّ في البعث ، وفي شكِّه في حدوث العالم ، إن كانت إِشارته ب " هذه " إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواعِ المخلوقات ، وإِن كانت إِشارته إِلى جنته فقط ، فإِنما الكلام تساخُفٌ واغترارٌ مفْرِط ، وقلَّة تحصيلٍ ،...") وهكذا لم يجدوا بدا من حشر الرجل مع الدهريين بغية منح كلامه بعض المعقولية !!فاعتقاد عدم إبادة الكون النوعي أولى بالاحتمال من الحكم بعدم إبادة جزء شخصي منه، فليحمل عليه كلام الرجل إذن! حاصل ما في الأمر، أن ظاهر كلام الرجل ركيك ،لا يليق أن يصدر عن عاقل ولا تتحقق مقبوليته إلا بأحد المسلكين: تضييق دلالة ظرف الزمان ،أو توسيع دلالة اسم الإشارة. هذا التوجه للمفسرين –دون أن يكون خطأ-ينطلق من قاعدة ضمنية مفادها هيمنة الاعتبارات العقلية والترسيم المنطقي:فصاحب الجنتين يتعين عليه أن يتكلم في حدود ما يجيزه المنطق، والمفسر عليه أن يحمل الكلام أيضا على مقتضيات المنطق ،ويختار من الدلالات الممكنة للعبارة ما هو أقرب لأحكام العقل.. لكن ما مسوغ هذا اللزوم لما لا يلزم؟ لماذا يفترض –مثلا- في الرجل أن يكون" منطقيا" رغم أنفه فيحمل كلامه على مقتضيات العقل؟ وما الداعي إلى حصر وظائف اللغة في الوظيفة المرجعية الواصفة للعالم وحدها ؟ إن القرآن الكريم ينقل الوقائع بصدق ودقة ومن جملة الوقائع كلام الناس..والمتأمل لأحوال الناس في كلامهم سيلاحظ بلا شك أن المتكلم يصدر في مناسبات عديدة عن غير مشرب المنطق: فتراه يركب مطايا التهويل والمبالغة والاتساع والمسامحة، ولا شك أن في تأويل كلامه بإرجاعه إلى المعقول والجائز شائبة الخيانة والتدليس.. لو صرفنا ،الآن، النظر عن الاعتبارات المنطقية في قول صاحب الجنتين -وأكرر أنها غير خاطئة لكنها غير كافية- وفسحنا المجال لاعتبارات عاطفية وانفعالية لاكتشفنا فيه ثراء دلاليا هو اللائق بالقرآن المعجز: -فلو اعتبرنا مثلا الوظيفة التأثيرية –أو الإفهامية-التي تركز على المخاطب لرأينا في قوله:" مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً" الرغبة في إغاظة صاحبه فقط فيتحصل من الجملة مضمون إنشائي ،وليس مضمونا خبريا ينظر في مطابقته أو عدم مطابقته للواقع... فصاحب الجنتين صال على صاحبه وجال بافتخاره بماله وولده، ومن المؤكد أن الفقير وجد عزاءه في تقرير حقيقة أن جنة صاحبه زائلة لا محالة في ما هو زائل..فكان الرد استفزازيا ليس إلا: "مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً"هو يدرك أن كلامه مضمونا غير معقول لكنه شكلا ضربة مسددة لإثارة الحنق والغيظ عند صاحبه فلا يسعد بما تعزى به... وكم يحصل لنا مثل هذا الموقف حينما ننكر الضروريات والبديهيات إما إثارة لحفيظة المخاطب أو طلبا لإنهاء مناظرة لا نريد الاستمرار فيها... -ولو اعتبرنا الوظيفة التأثرية-أو الانفعالية-التي تركز على المتكلم لرأينا في قوله "مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً"تعبيرا عن الانتشاء بالمال والولد..وكثيرا ما يصاحب تنامي الإحساس بالنشوة تصاعد الرغبة في المبالغة في الكلام: فكم يقول المرء عندما يحل لغزا مثلا" أنا أذكى رجل في العالم" أو تقول المرأة أمام المرآة وقد ارتاحت إلى بشرتها " أنا أجمل نساء العالمين" فلا الرجل يعتقد حقيقة أنه الأذكى ولا المرأة تظن في قرارة نفسها أنها الأجمل..لكنها النشوة!! فصاحب الجنتين عندما استعرض ملكيته :جنتين ونهرا متفجرا وثمارا متنوعة وخدما وحشما لم يتمالك نفسه من الانسياق مع الإحساس الجميل فقال ما قال....وبعبارات الألوسي: ("وكأن حب الدنيا والعجب بها غشي على عقله فقال ذلك وإلا فهو مما لا يقوله عاقل وهو مما لا يرتضيه فاضل") {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً }الكهف36 بموجب ما افترضناه من احتباك في الحوار،فإنه بوسعنا استحضار الخطاب الغائب اعتمادا فقط على القول الحاضر...فالاحتمال كبير في أن الرجل الفقير قد نصح صاحبه وعاتبه ووجه نظره-وصاحبه سادر في نشوته وغيه-إلى التفكير في حسرة ممكنة في الدنيا ومؤكدة في الأخرى: فالحسرة الأولى قد تحصل من إبادة جنتيه كلتيهما فلا اعتداد ولا اعتماد. وعلى تقدير سلامة الجنتين مؤقتا فالساعة قائمة لا محالة.. وذكر الساعة -أو التذكير بها – هو لتحقيق معنى الحسرة المزدوجة: -فهي من جهة تأكيد لإبادة الجنتين فالساعة هي نهاية الدنيا وخراب العالم بأسره ومن جملته الجنتان. -وهي من الجهة الأخرى إرهاص ببدء الحسرة العظمى فليست الساعة إلا لحشر الناس وليس حشرهم إلا لحسابهم..فلو كانت الساعة مجرد انهاء للكون لهان الأمر قطعا...لكنها تنهي وتدشن في وقت واحد!. وقد جار رد صاحب الجنتين وفق هذا الترتيب: فقد رأينا رده الاستفزازي في مسألة مصير الجنتين، وهاهو الآن يتعرض للشق الثاني من التهديد فيبدأ بإنكار الساعة وليس مقصوده إلا إنكار اللازم وهو العذاب الآتي ،ذلك لأن الرجل موقن بأنه سيموت ونهاية العالم بعد ذلك لا تضره في شيء إلا إذا أعقبه الحساب... وعلى الفرض الجدلي بوقوع الساعة فإن المحذور غير واقع:فليس عليه حساب بل سيجد هناك ما هو أفضل وأبقى من جنتيه الحاليتين!!!وقد أثبت هذا لمحاوره على وجه بياني شديد:إقسام وتوكيد. ولنا أن نلاحظ الدلالة النفسية في قوله : لَأَجِدَنَّ.. "وجد" تعني العثور على ما هو موجود من قبل...فالرجل من غروره يرى أن ربه هيأ له مسبقا بديلا لجنتيه، فحاله في الأخرى أفضل من حاله في الدنيا تصريحا بقوله "خيرا"،وتلميحا لأن جنته في الدنيا" مجعولة "شيئا فشيئا في الزمان والمكان، أما جنته في الآخرة فهي جاهزة تنتظره!! 7- {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً }الكهف37 تكتسي الجملة القرآنية مرونة مذهلة ،أعني أن في تركيبها واختيار كلماتها دعوة للذهن للانتقال من مذهب إلى آخر..فحيثما اتجه الفكر وغير من نهج التناول وجد الإشعاع الدلالي للجملة قائما...فلتنظر مثلا في قوله: " أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً" لك أن تقرأها على قاعدة الحجاج. ولك أن تقرأها على قاعدة التأثير. ولك أن تقرأها على قاعدة التأثر. وستجد أمامك- على أي قاعدة اخترت -معنيين فأكثر. 1- أ-الجملة تقرير حجاجي على البعث-وهو مذهب جمهور المفسرين-فذكر الخلق من" التراب"تنبيه على إمكان البعث عن طريق قياس الأولى..فالبعث ليس إلا إنشاء من التراب وإخراجا منه فكيف تنكر الإعادة مع الإقرار بالنشأة الأولى!!! إن جحد النشأة الأولى هذيان وسفسطة، وإنكار النشأة الثانية تجديف في العقل لأن في ذلك تفرقة بين متشابهين!! ب-الجملة تقرير حجاجي على الربوبية-وهو ظاهر الجملة-بلفت النظر إلى التصرف في العناصر بحيث يبهت المعطل: -التراب عنصر غير عضوي ،وغير حي... -النطفة عنصر عضوي، حي، غير عاقل. -الرجل عنصر حي، عاقل.. فكيف يمكن إخراج شيء موصوف بصفة لا يتصف بها أصله!! تحويل التراب إلى نطفة أمر مذهل بله تحويل التراب إلى رجل ! من أين جاءت الحياة للتراب لتتشكل النطفة.. ومن أين جاء العقل للنطفة ليتسوى الرجل... "أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" 2- ج-الجملة توبيخ وتأنيب: كيف تقابل النعمة بالكفر! "سواك رجلا" وكان من الممكن أن "يسويك امرأة" فتكون في مرتبة أقل، بل كان من الممكن أن "يسويك حمارا"!! د-الجملة تذكير وتحقير: صاحب الجنتين طغا وتجبر بغير حق ،فحق أن يذكر بأصليه الحقيرين: التراب الذي يداس بالأقدام ..والنطفة التي تخرج مما هو معروف!! 3- ه-الجملة استنكار: فالرجل الفقير يستنكر أن ينزل صاحبه إلى هذه الدركة الخسيسة من الغرور والتطاول على العباد وعلى رب العباد... و-الجملة تعجب.. فيكون الاستفهام دالا على الاستغراب :فمن عجائب أحوال الإنسان أن ينطمس عقله فيجادل في البدهيات أو أن تنطفيء ذاكرته فينسى أصله ونوعه.. ولعلك وقفت على شيء من إعجاز أسلوب القرآن ..وأدركت كيف شعت -مثلا -كلمة "تراب" : عقلا فدلت على الخلق والمعاد .... وحسا فدلت على الأصل و العنصر وخلقيا فدلت على الوضاعة والحقارة.. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً{37} لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً{38} وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً{39} فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً{40} أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً{41} هذا أطول مقاطع المثل المضروب،ويبدو أن المؤمن اتخذ استرسال الخطاب أسلوبا في الحوار، عكس اقتضاب الخطاب عند صاحبه.. وقبل محاولة الكشف عما تضمنه هذا الاسترسال نسجل ملاحظتين إجماليتين: 1-جاء المثل المضروب تصديقا وتثبيتا للسنة الإلهية العامة في تقدم الإنذار على الأخذ بالذنوب ،وإقامة الحجة قبل فتح باب العذاب.. "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" فالإحاطة بالثمر لم تأت- لفظا- عقيب كفر الغني، ولكنها جاءت إثر الإنذار الطويل من قبل صاحبه المؤمن .. فيكون المثل قد انتظمت فيه الحالات الأربع الثابتة في مصارع الأفراد و الأمم: أ-حالة فتح أبواب النعمة على سبيل الاستدراج والابتلاء. ب-حالة الكفر والبطر والإسراف على النفوس. ج-حالة بعث من يقوم بالإنذار. د-حالة الهلاك بعد تأكد عدم جدوى التحذير. 2-يكشف مقال المؤمن عن ثابتة أسلوبية تميز خطاب الإيمان عن غيره، تلكم الثابتة هي استحضار الاسم الجليل على طول وعرض مساحة الخطاب. جاء في سنن ابن ماجة: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَنْبِئْنِي مِنْهَا بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ قَالَ لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (صححه العلامة الألباني) أما الكفار والمنافقون فهؤلاء لا يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً .. إن الصاحب المؤمن قد ذكر ربه ثلاث مرات: هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي فَعَسَى رَبِّي وذكرإلهه ثلاث مرات : لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ.. مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.. (فضلا عن الاسم الموصول والضمير المنفصل والضمائر المستترة العائدة على رب العزة.) وفي المقابل لم يجر اسم الله على لسان الكافر إلا مرة واحدة: وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي. وهكذا يضع القرآن الحكيم بين أيدينا معيارا حقيقيا لتصنيف الخطابات :فحسبك أن تحصي كم مرة يرد اسم الله في خطاب ما لتصنفه بكل طمأنينة في المرتبة التي يستحقها.. glpm fghydm td r,gi juhgn: ,hqvAf gil legh v[gdk [ugkh gHp]ilh [kjdk lk Hukhf | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
23 / 03 / 2010, 28 : 06 AM | المشاركة رقم: 2 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : ملتقى علوم القراءات والتجويد بارك الله فيك وجزاك الله خيرا أللـهـم اغـفـر لـه ولـوالـديـه مـاتـقـدم مـن ذنـبـهـم ومـا تـأخـر.. وقـِهـم عـذاب الـقـبـر وعـذاب الـنـار.. و أدخـلـهـم الـفـردوس الأعـلـى مـع النـبـيـين والصديقين والـشـهـداء والـصـالـحـيـن .. وإجـعـل دعـاءهـم مـسـتـجـابا فـي الـدنـيـا والآخـرة .. ووالدينا ومن له حق علينا ألــلـهــم آمـــــــيــــــــن. . | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
23 / 03 / 2010, 49 : 08 AM | المشاركة رقم: 3 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : ملتقى علوم القراءات والتجويد وزادك الله من علمه التعديل الأخير تم بواسطة هدىالله ; 23 / 03 / 2010 الساعة 51 : 08 AM | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
23 / 03 / 2010, 37 : 07 PM | المشاركة رقم: 4 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : ملتقى علوم القراءات والتجويد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بسم الله الرحمن الرحيم أشكركم على مروركم الراقي والرائع. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
29 / 04 / 2010, 01 : 02 AM | المشاركة رقم: 5 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : ملتقى علوم القراءات والتجويد اكرمكم الله وجزاكم الله خيرا | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
29 / 04 / 2010, 42 : 05 PM | المشاركة رقم: 6 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| كاتب الموضوع : أبو عادل المنتدى : ملتقى علوم القراءات والتجويد بارك الله فيك أخي الكريم محمد نصر وجزاك خيرا وأشكرك على المرور والرد. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
|
|
|
For best browsing ever, use Firefox.
Supported By: ISeveNiT Co.™ Company For Web Services
بدعم من شركة .:: اي سفن ::. لخدمات الويب المتكاملة
جميع الحقوق محفوظة © 2015 - 2018